د.م أحمد الزلاط يكتب «كيف انتقلت الحرب بين أمريكا والصين من الرقائق إلى السفن»

قبل عقدٍ من الزمن، كانت الحرب بين الولايات المتحدة والصين تُخاض في صمت داخل المختبرات ومصانع الرقائق الدقيقة.
كانت العناوين تدور حول الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المتقدمة، والشرائح الإلكترونية.
لكن بينما انشغل العالم بسباق البيانات، كانت الصين تجهّز نفسها لمعركة أعمق وأخطر: معركة السيطرةعلى البحر.
فمن يملك البحر..يملك التجارة، ومن يملك التجارة يملك القرار.
الصين: القوة التي خرجت من المحيط
في عام 2023، أنتجت الصين أكثر من نصف السفن التجارية في العالم، أي نحو 51٪ من إجمالي الإنتاجالعالمي (32.8 مليون طن).
بينما جاءت كوريا الجنوبية في المرتبة الثانية بنسبة 28٪، واليابان بنسبة 15٪، أما الولايات المتحدة فبأقلمن 1٪ فقط.
هذه الأرقام لا تعكس تفوقًا صناعيًا فحسب، بل تحوّلًا استراتيجيًا في موازين القوى العالمية.
الصين لم تكتفِ ببناء السفن، بل بنت شبكة نفوذ بحري تمتد إلى أكثر من 100 ميناء في 63 دولة حولالعالم — من باكستان إلى إفريقيا وأوروبا.
وبذلك أصبحت تتحكم في “شرايين الاقتصاد العالمي”، إذ إن أكثر من 90٪ من التجارة الدولية تمر عبرالبحر.
أمريكا: العملاق الذي تراجع عن البحر
الولايات المتحدة التي كانت تبني سفن الحرب العالمية الثانية، لم تعد تملك القدرة الصناعية نفسها.
في العام الماضي، خرج من أحواض السفن الأمريكية أقل من 10 سفن تجارية جديدة، بينما بنت الصين أكثرمن ألف سفينة في نفس العام.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حاول بعث الصناعة من جديد، ففرض رسومًا ضخمة على السفن الصينية الداخلة إلى الموانئ الأمريكية، لكن بكين ردت بالمثل، قبل أن يتم الاتفاق مؤخرًا على تعليق متبادل للرسوم لمدة عام، ومع ذلك، فإن الرسالة كانت واضحة: أمريكا فقدت البحر الذي كانت تهيمن عليه لعقود.
أرقام صنعت حرب الصناعات الكبرى
صناعة السفن ليست سوى واجهة لصراع أوسع على قيادة الاقتصاد الصناعي العالمي. فالصين اليوم تتصدر مجالات عديدة كانت يومًا ما حكراً على الغرب:
* الصلب والمعادن: الصين تنتج أكثر من 56٪ من الحديد والصلب العالمي.
* البطاريات والسيارات الكهربائية: تستحوذ على 70٪ من إنتاج بطاريات الليثيوم في العالم.
*الطاقة الشمسية: تهيمن على أكثر من 80٪ من السوق العالمية للألواح الشمسية.
*الذكاء الاصطناعي: تمتلك أكبر عدد من براءات الاختراع الجديدة في هذا القطاع، متجاوزة نظيراتها الأمريكية.
*الفضاء والملاحة: أطلقت الصين أكثر من 60 قمرًا صناعيًا مدنيًا في عام واحد — أكثر من الاتحاد الأوروبي مجتمعًا.
وبينما تركز أمريكا على إعادة بناء صناعة الرقائق الدقيقة والطيران العسكري، تواصل الصين حصد النفوذ في “الصناعات الثقيلة” التي تُشكّل العمود الفقري للقوة الاقتصادية الحقيقية.
البحر… ساحة الصراع الجديدة
البحر الذي كان رمزًا للهيمنة الأمريكية، أصبح اليوم خريطة النفوذ الصيني،، فالسفن التي تنقل بضائع العالم تحمل محركات صينية، وهياكل كورية، وإدارة لوجستية من شرق آسيا.
الولايات المتحدة ما زالت تملك أقوى أسطول عسكري، لكنها لم تعد تملك سلسلة الإمداد التي تتحكم فيحركة الاقتصاد العالمي.
الصين لم تتبع نموذج الغرب… بل أنشأت نموذجها الخاص ،، تصنع السفن، وتملك الموانئ، وتدير خطوط الشحن، وتؤمن التمويل، وتُصدر الخدمات البحرية للعالم ، إنها إمبراطورية صناعية متكاملة خرجت من البحر لتعيد رسم موازين القوى.
الخاتمة
لم تعد الحرب اليوم تُخاض في السماء أو الفضاء… بل في البحر.
ولم تعد القوة تُقاس بعدد الصواريخ أو الطائرات، بل بعدد السفن التي تبنيها الدول وتُسيطر بها على طرقالتجارة.
الصين أدركت أن من يملك السفن يملك العالم،بينما ما زالت الولايات المتحدة تحاول اللحاق بموجةٍ غادرتهامنذ عقود.
إنها حرب جديدة لا تُطلق فيها الطلقات…
بل تُقاس فيها القوة بالقدرة على بناء، وتحريك، والتحكم في الاقتصاد العائم على سطح البحر.


