مقالات ودراسات

م . عباس محمود يكتب : القــلب المفــتوح

القــلب المفــتوح

بعد الوعكة الصحية التى مررت بها الأسبوع الماضى قررت أن أكتب إليكم عن ما يطلق عليه جراحة القلب المفتوح لعلى قد أكون قد أقتربت من تسجيل المشاعر لمن يمرون بهذه التجربة … مع خالص تحياتى.
النبض يهددني بالتوقف لا أنا أرفض أن تكون النهاية هكذا أنا اختار نهايتي ألا يكفي أن لا أختار ميلادي العدالة تقتضي أن يكون لي خيار ولو مرة واحدة وأنا لم أقرر بعد ومازالت الأصابع تعبث في داخلي أشعر بأدواتهم تتغلغل داخل قلبي وأضحك من داخلي وألمح وجهي في المرآة المعلقة بالسقف وقد ارتسمت عليه ابتسامة النصر هؤلاء الجهابذة يظنون أنهم يصلحون قلبي من الداخل وأين هم حتى من غلاف قلبي إنهم يعتقدون أن تلك العضلة الحمراء هي القلب يالهم من أغبياء إن قلبي يا سادة من الكبر حتى انه يحتويني بالكامل بل انه قادر على احتواء العالم بأسره دعهم يعبثون فما هي إلا قطعة لحم يعبثون بها أما القلب فأين هم منه لا أحد يستطيع الوصول إليه بسهولة قلبي أنا فقط الذي أعرف طريقه وإن كنت حتى الآن لا أفهمه تماما ما زالوا يواصلون لعبتهم أكثر ما يضايقني هو تلك الغابة من الأنابيب والتهديدات والأسلاك التي يحيطونني بها أنا لن أهرب فالتجربة ممتعة إلي أقصي حد للمرة الأولى أرى الصدر مفتوحا واللحم بلونه الأحمر وحركة الرئتين ودقات القلب وأرى أيدي كثيرة تمتد وهي تحمل من أدوات الجراحة الكثير والكثير ولغة العيون هي السائدة بينهم وأنا أعي تماما ما يدور حولي لا أجد أي أثر للمخدر عدا أنني لا أشعر بأي ألم وأكاد أن أتلمس أدواتهم حين تعمل في جسدي وكأنها تدغدغني أنهم يسمونها القلب المفتوح وآه من القلب المفتوح على مصراعيه يستقبل الجميع ويحتضنهم ويسكنهم في سويدائه الكل مخلصين حتى يثبت العكس الكل محبين إلي أن يثبت العكس كان الدخول إلي قلبي أيسر من شرب كوب من الماء تكفي ابتسامة بسيطة لتعبر إلي الداخل تكفي لمسة رقيقة لتعطيك إقامة دائمة أما الخروج منه فقد كان أصعب من الخروج من ثقب الإبرة ولكن ليس هذا مجال الكلام عن قلبي إنما أنا أحدثكم عن جراحة القلب المفتوح هل حقا هي جراحة وهل حقا يوجد جرح؟؟ وأين الألم وأين الأوجاع يا حضرات الأطباء الأفاضل هل يسمى هذا جرح اسألوني وأنا أقول لكم عن الجراح وألام الجراح وآثار الجراح وما زالت أصابعهم تعبث وما زالت غابة الخراطيم والأنابيب والأسلاك تحاصرني وأين أنا من كل هذا ؟!!
مع كل لمسة طبيب تتوالى صفحات الذاكرة … أيام الراحة واللامسئولية هموم البشر هموم الوطن نزوات الطيش واللامبالاة الغربة عن الوطن والغربة في الوطن .
وتأخذني الأفكار والذكريات إلي عالم هلامي الشكل واللون وأسبح في محيط من الضباب ذو الألوان المتداخلة العجيبة أشعر بأنني خرجت من منطقة الجاذبية وأخذت أطفو سابحا في فضاء لا نهائي متحررا من كل القيود والأثقال خفيف الحركة سريع التحرك زاوية الرؤية تتسع لتشمل كل ما يحيط بي أرى وبكل سهولة ما أمامي وما ورائي وما حولي بل أنني لا أبالغ إذا قلت بأنني أشعر بأنني أحتوى ببصري كل ما حولي وأنا محلق في الأعالي وأرى وبوضوح شديد كافة ما يحيط بي من أمامي وخلفي وفوقي وتحتي وأرى مجموعة الأطباء والممرضات كما لو كان هناك تيار كهربائي يسري في أبدانهم صرخات تتعالى وحركات سريعة مضطربة والكل يجري في كل اتجاه وأرى جسدي مسجى على طاولة الجراحة وهم يذهبون ويأتون ويحضرون أشياء يدخلونها في فتحة الصدر ومزيد من الأنابيب والمعدات تذهب وتجئ واشعر بشيء قوي كأنه ريح عاصف يدفعني إلي سرداب مسربل بالظلام الحالك وممتد إلي ما لا نهاية ورغم قسوة الظلام وقوة الدفع فأنا أشعر بطمأنينة لا أدرى مصدرها وشعور بالراحة أخذ ينمو في داخلي حتى احتواني بالكامل وفي لمحة خاطفة غمرني ضياء شديد … شديد … قوى… قوى .. ورغم ذلك لم أشعر بالنفور أو الضيق من ذلك الوهج وتزايد الشعور بالراحة والاطمئنان وتسلل كالمخدر اللذيذ بداخلي وزاده ما تناهى إلي سمعي شيء أشبه بحفيف الأشجار في ليالي الربيع موسيقي ملائكية خليط من الترانيم الكنسية مع تراتيل الذكر كأنها سيمفونية لا وأين منها أية سيمفونية ورحت كالحالم أتوحد وأذوب وأفني في ذلك النغم الملائكي وأشدو بالترانيم وأرتل مع المرتلين وأتلو تسابيح تزيد من الضياء الداخلي يا من تفيض محبتك على المحبين وتفيض أنهار رحمتك للتائبين وضياء نورك هاديا للطائعين عدنا إليك فخذ بأيدي المعثرين.
وأشعر أنني قد أصبحت شعاعا لا وزن لا ملمس مجرد شعاع نوراني وقوة خفية تسحبني من عالم النور وأعود ثانية إلي النفق بشعور طاغ بالأمن والاطمئنان حتى لاحت لي غرفة العمليات ومازال جسدي مسجى وشيء ما يجذبني لأتوحد مع الجسد وتغيم الدنيا من حولي ولا أشعر بشيء.
وأفيق على أصوات آدمية حولي الحمد لله كتب له عمر جديد وأفتح عيناي لأجدني على السرير الأبيض وحولي يتحلق المهنئون بنجاح الجراحة كنت أستعيد ما حدث واعيا بالتفاصيل ولا أجرؤ على البوح.
أتمنى أن نلتقى قريباً إذا كان فى العمر بقية……

طبق الأصل غرفة عناية مركزة
عباس محمود عباس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »