مقالات ودراسات

م . عباس محمود يكتب :حكايات جدى ـ الحكاية الثالثة الأقرب مودة للذين آمنوا

حكايات جدى – الحكاية الثالثة الأقرب مودة للذين آمنوا

عائداً من المدرسة بعد يوم دراسي مليء بالأحداث التي كنت أشعر بها آنذاك أنها محور الكون… وكيف لا وهي عالمي… كانت ملابسي جميعاً مبتلة بالعرق حيث كنا نخوض معركة كبيرة لم يحقق أي طرف فيها نتيجة سواء فوز أو خسارة… ودخلت إلى المنزل وبداخلي كم لا يخفى على أحد من القهر والغيظ والإحباط… كان جدي جالساً في مكانه المعتاد ولم أكن أتوقع وجوده بالمنزل في مثل هذا الوقت من اليوم وبادرني والدهشة تملأ وجهه مالك… فيه إيه؟؟؟ أنت كنت في خناقة؟؟ وأطرقت صامتاً للحظة ثم أجبت بصوت أقرب إلى الحشرجة أيوه اتخانقت فتبسم قائلاً طيب أغسل وشك وغير هدومك وتعالى أحكي لي بالراحة… وأسرعت إلى غرفتي وقد أزداد غيظي كيف يبتسم عندما أقول إني كنت أتعارك… ولما يؤجل الحديث إلى ما بعد أن استبدل ملابسي وأنظف وجهي… ألا يجب أن يعرف سبب هذه المعركة ألا أستحق أن يهتم بمشاكلي وأن يعطيني من وقته ما أحتاجه.
وأسرعت في ارتداء ملابسي وذهبت إلى الحمام واغتسلت وأنا أتعمد الإبطاء حتى أجهز الرواية والمدخل الذي أضمن به أن اكتسبه في صفي… كنت في العاشرة من عمري في ذلك الوقت… وحفظت أجزاء لا بأس من القرآن وقرأت الكثير من روايات أرسين لوبين وشرلوك هولمز… وبعض كتب المنفلوطي وأيام طه حسين وكثير من الكتب التي كانت تهدى إلى عند نجاحي فقد كانت هدية نجاحي دائماً مجموعة منوعة من الكتب أقطع بها أجازة الصيف بجانب المجلات المعتادة… وذهبت لأجلس أمام جدي الذي بادرني قائلاً هيه… يالا يا سيدي أحكي لي إيه اللي حصل… وتذكرت قبل أن أبدأ في رواية ما حدث أنني لا أستطيع أن أكذب لأنه سوف يكتشف بسهولة أنني لا أقول الحقيقة… ولا أعرف كيف؟؟؟

وثانياً لأنني أعلم أن الكذب قد يؤدي إلى عواقب وخيمة … و … و … وقررت أن أحكي الصدق ولكن بطريقتي وليس طبقاً لتسلسل الأحداث… قلت أنا اتخانقت مع الواد “فؤاد ميخائيل”… وضغطت وأنا أنطق كلمة “ميخائيل” ويبدو أن رسالتي لم تكن واضحة… فقد سألني وإيه سبب الخناقة… وتجاوزت السؤال واستطردت… أصله واد كافر وهايروح النار… وأدركت أن هناك شيء ما عندما اعتدل جدي وواجهني وقد ارتسمت على وجهه خليطاً من الدهشة والتعجب والاستنكار… وسألني يعني إيه كافر ويروح النار… وأجبت في ثقة وأنا متيقن بأنني قد ضمنت وقوفه في جانبي… أصله مسيحي كافر علشان كده هايروح النار… ونظر جدي تجاهي وابتسامته المعهودة تملأ وجهه… لم تكن ابتسامة رضا بقدر ما كانت تحمل من إشفاق ممزوج بالحنان وسألني وأنت بقى هاتروح فين؟؟… وأجبت فوراً وبثقة الجنة طبعاً… فعاد يسأل ليه؟؟… قلت مواصلاً الحوار علشان أنا مسلم… واتسعت ابتسامة جدي والتي لم أرتاح لها هذه المرة وسألني… وأنت مسلم ليه بقى؟؟

وكأنما سقط فوق رأسي أسراب من الطيور المختلفة وتلعثمت قليلاً قبل أن أرد عليه أنا مسلم علشان حضرتك مسلم ونينا مسلمة وبابا وماما وأخوتي كلهم مسلمين فهز رأسه وما زالت الابتسامة تملأ وجهه وأردف طيب وأفرض إن أنا ونينا وكلنا كنا مسيحيين… أنت كنت ها تبقى إيه؟؟؟ ولا أستطيع أن أصف لكم كم الارتباك الذي أحسسته ولا كم المشاعر التي اجتاحتني… وأجبت بصوت لا يكاد يسمع وبحروف متقطعة طبعاً كنت أبقى مسيحي !! وكنت هاتروح النار؟؟

وأجبت بسرعة حتى أبعد عن ذهني هذا الاحتمال مش عارف!! وكان إحساسي في تلك اللحظة مثل الذي تجذبه دوامات البحر إلى المجهول… وبدا جدي كما لو كان مصراً على تنفيذ شيء ما !! وسألني ثانية طيب ليه المسلم يدخل الجنة والمسيحي يروح النار؟؟ ولم أجد بد من أن أقول ثانية مش عارف!! وحقيقة لا أعرف… وانحنى جدي فارداً يده والتقط المصحف الموضوع بجواره وقال لي وكأنه يتحدث إلى صديق تعالى نشوف ربنا قال إيه في الموضوع ده وبدأ يقلب في صفحات المصحف وقال لي اسمع يا سيدي بسم الله الرحمن الرحيم “ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون”82 المائدة وتوجه إلى بالحديث قائلاً هل يقول الله عنهم أنهم أقرب مودة ثم يدخلهم النار… واستمر يقلب في صفحات المصحف وقرأ لي بسم الله الرحمن الرحيم “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”62 البقرة واعتدل جدي في جلسته قائلاً… إن الله قد ساوى بيننا وبين اليهود والنصارى والصابئين بشروط أن نؤمن به واليوم الآخر وأن نعمل صالحاً ولم يفرق بين أحد من العباد إذا استوفى هذه الشروط بل وعده بأن لا خوف عليه من دخول النار ولا يحزن بأي عقاب… واستمر في استخراج آيات من المصحف وتلاوتها لي ومنها مثلاً بسم الله الرحمن الرحيم “إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة”55 آل عمران.

إذاً القرآن يعلمنا أن اتباع سيدنا عيسى فوق الذين كفروا وتيجي أنت يا أستاذ تقول كافر وكمان تحكم عليه إنه رايح النار… مين أعطاك تفويض تحكم على الناس… ده كافر… وده يروح النار… وفجأة وكأنما أدرك أنه يتحدث إلى طفل في العاشرة… بدأ صوته يلين وعادت البسمة تغطي وجهه وأخذ يحدثني أننا جميعاً أبناء الله وأن جميع البشر هم عباد الله وأن ما يفرق بين فرد وآخر هي أعماله في الدنيا… فالإنسان الذي يفعل الخير ويعامل الناس معاملة حسنة ولا يفعل ما نهت عنه الديانات جميعاً كالسرقة والقتل والكذب… فإنه يكون مقبولاً عند الله أياً كانت عقيدته مادام مؤمناً بوجود الله… وكنت أتابع الحديث بربع عقل أما باقي العقل فقد كان يعمل في اكتمال صورة في خيالي… ماذا لو كنت مسيحياً… وما شكل الحياة… وكيف أصلي ومتى أصوم وكنت أعلم أنهم يصلون في الكنيسة ولم أكن قد رأيتها من الداخل وأخذت أسرح متخيلها من الداخل وكان صوت جدي قد تراجع في خلفية بعيدة عما جمع إليه خيالي… وانتبهت إليه وقد توقف عن الكلام قائلاً إيه؟؟!

أنت سرحت جامد في إيه يا ترى؟؟ وأجبته على الفور وبدون تفكير… عايز أدخل الكنيسة وأتفرج عليها وعايز أعرف إزاي بيصلوا… وربت على كتفي قائلاً… اسمع… أنت الأول تصالح صاحبك وتعتذر له… وبعد ما تبقوا أصحاب تقدر تطلب منه إنك تروح معاه الكنيسة… وعدت أسأل مندهشاً… يعني مش حرام أروح الكنيسة فنظر لي معاتباً… تاني!! يا أبني الكنيسة بيت الله زي الجامع ويذهب إليها الناس ليعبدوا الله ويطلبون منه المغفرة والرحمة بالدعاء والتقرب له… مثل ما نفعل في صلاتنا… وسألني… كم عمرك الآن وحاولت أن أضيف بضعة أشهر فقلت له إحدى عشر عاماً فأجابني عال سوف أحضر لك في الإجازة القادمة الكتاب المقدس وهو من جزءين العهد الجديد أو الإنجيل والعهد القديم أي التوراة… ويمكنك أن تبدأ في قراءتهم وإذا استعصى عليك شيء فسوف أشرح لك معناه كما نفعل في القرآن وسوف أرتب لك بضع جلسات مع أحد أصدقائي من آباء الكنيسة ليبسط لك أي شيء غامض.
ولكن لماذا أتذكر هذه الواقعة الآن… اليوم هو الذكرى السنوية الأولى لصديق عمري “فؤاد” وأنا في مدخل الكنيسة لحضور القداس المقام.
وإلى لقاء قريب مع باقى حكايات جدى….

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »