مقالات ودراسات

إبراهيم طه.. يكتب: «النقل» تعيد نهر النيل دائرة الضوء

تخيل أن نهر النيل، شريان الحياة القديم الذي حمل أسرار الفراعنة، على وشك أن يتحول إلى طريق سريع ذكي يشبه الطرق المستقبلية، لكنه يسير فوق الماء.. هذا ليس خيالاً علمياً، بل هو واقع تُشيّده مصر اليوم على ضفافه، حيث تاريخ الأمم العريق، تُكتب الآن واحدة من أجرأ صفحات التنمية، لتحويل أطول أنهار العالم إلى محور نهضة نقلية متكاملة تليق بأم الدنيا.

تبدأ هذه النهضة بخطة استراتيجية شاملة لإحياء النقل النهري، لتعيد للنيل دوره كمجرى حيوي بطول 3126 كيلومتراً داخل الأراضي المصرية.. وكان التصديق على القانون رقم 167 لسنة 2022 بمثابة إطلاق شرارة التحول، حيث وحد ولاية النهر تحت مظلة الهيئة العامة للنقل النهري، مؤسساً لمرحلة جديدة من الإدارة المركزية والتنظيم الفعال.

ولتحقيق هذه الرؤية، تشمل الخطة إنشاء شبكة متكاملة من الموانئ النهرية المتخصصة، وتطوير الأهوسة لتشغيل على مدار 24 ساعة، مع عمليات تكريك مستمرة لضمان سلامة الملاحة. هذه المشاريع تمثل العظام والأعصاب للجسم النهري الجديد.. ولكن، ما الفائدة من بناء هذه البنية التحتية الضخمة دون نظام إداري رقمي متطور يربطها جميعاً ويجعلها تعمل بذكاء؟

هنا يأتي دور القلب التكنولوجي للمشروع: منظومة خدمات معلومات النهر «River Information Services – RIS» بالشراكة مع خبراء نمساويين «يُطبقون نموذجاً ناجحاً على نهر الدانوب»، تعمل هذه المنظومة بمثابة «الدماغ الرقمي» للملاحة.. ببساطة، هي تحول النيل من مجرى مائي يعتمد على خبرة الربان فقط إلى طريق ذكي وآمن يشبه إلى حد كبير نظام الملاحة في الطائرات.

والسؤال: كيف ستلمس هذه المنظومة حياة من يعمل بهذا القطاع وتحسن عمله؟!
الإجابة: سيتم ذلك حسبما علمت أن استراتيجية عمل المنظومة قائمة على توفير ثلاث محاور وهي:
أولا: تتبع لحظي دقيق بدلاً من التخمين، سيرى الربان على شاشة مكان قاربه بدقة وموقع كل القوارب الأخرى حوله.
وثانيا، إنذارات مبكرة سيستلم تنبيهاً فورياً إذا اقترب من منطقة خطرة أو إذا تغيرت الأحوال الجوية فجأة، مما يمكنه من اتخاذ إجراءات وقائية.
وأخيرا، توفير الوقت والمال، النظام سيحدد له المسار الأكثر أماناً والأقصر، مما يوفر وقته ويقلل استهلاك الوقود بشكل كبير.

هذا التكامل بين البنية المادية والذكاء الاصطناعي يؤتي ثماره ملموسة، حيث تسجل النتائج الأولية خفض حوادث الاصطدام بنسبة 70% وتوفير 40% في استهلاك الوقود وتقليل زمن الرحلة 25%

الأمر لا يتوقف عند السلامة والكفاءة التقنية فحسب، بل يمتد إلى قلب الاقتصاد والبيئة. فوفقاً للدراسات، الوحدة النهرية الواحدة تعادل حمولة 40 شاحنة برية أو 100 حاوية، مما يعني توفيراً في تكاليف النقل يصل إلى 60 % مقارنة بالنقل البري.. وهذا التوجه لا يخفف الضغط على الطرق البرية ويقلل الحوادث المرورية فحسب، بل يسهم أيضاً في خفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 25 %، محولاً النقل النهري إلى ركيزة أساسية في تحقيق التنمية المستدامة.

ولتعظيم هذه الفوائد، فتحت الوزارة الباب على مصراعيه للاستثمار الخاص، في خطوة من شأنها خلق فرص عمل جديدة وتحفيز النمو الاقتصادي.. وبهذه الرؤية المتكاملة، لن يكون النيل مجرد منظر نستمتع به أو صفحة من كتب التاريخ، بل سيصبح شرياناً حقيقياً للسلع، وناقلاً للطالب إلى جامعته، ومخففاً للازدحام عن طرقنا.

بالعلم والتخطيط وحسن الإدارة عاد النيل إلى دائرة الضوء، لا كشاهد على الماضي، بل كصانع لمستقبل مصر، حاملاً في تياراته نهضة اقتصادية وبيئية تلمس حياة كل مصري وتصنع غداً أكثر إشراقاً.

مقالات مرتبطة

إبراهيم طه.. يكتب: «النقل» تعالج جسد مصر ب «7» شرايين لوجستية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »