إبراهيم طه يكتب: «النقل» و«المدرّب كارتر».. تحويل التمرّد إلى انضباط

«النقل» و«المدرّب كارتر».. تحويل التمرّد إلى انضباط
من عاداتي في وقت الراحة مشاهدة فيلم سينمائي أو قراءة محتوى يهمني من روايات أو مسرحيات.. إلخ، ومؤخرا شاهدت فيلم «المدرب كارتر» الذي قدّمته لنا السينما في عام 2005.
الفيلم يحمل بين طياته قصة إنسانية نابضة، قام بأداء دورها ببراعة الممثل «صامويل جاكسون».. لم تكن هذه القصة من نسج الخيال، بل استمدت أصولها من أرض الواقع، من حياة مدربٍ حقيقي اسمه كين كارتر، أحد مدربي كرة السلة في مدرسة «ريتشموند الثانوية» بأمريكا، الذي أثارت أساليبه الضجة في الأوساط الإعلامية في أواخر تسعينيات القرن الماضي.
عاد «كارتر» إلى مدرسته القديمة التي احتضنت أحلامه الرياضية في صباه، والتي كانت تشهد أيامًا مجيدة من البطولات والأرقام القياسية. لكن الحال لم يعد كما كان، فالفريق الذي وجده كان صورة باهتة للمجد القديم.. شبانٌ تائهون، تسيطر عليهم الفوضى والعناد، وقد غرقت مسيرتهم التعليمية في مستنقع الإهمال والتردي.
صدقا هذا الفيلم «المدرب كارتر» حكايةٌ تتجاوز أرض الملعب، ذهبت بخيالي كونه يغوص في أعماق فن قيادة النفوس.. ها هو رجل يصنعُ القرار الصعب الذي يرفضه الجميع، لأنه يعرف أن القيادة الحقيقية شجرةٌ تنمو في تربة المبدأ أو القاعدة الأخلاقية.
يضعُ نصب عينيه حلمًا كبيرًا يقوده كالبوصلة، فيبني عليه خطته وخطواته ويصنعُ من الانضباطِ الذاتي القائم على الالتزام لا على الخوف سُلَّمًا للعلياء.
لم يكتفِ «كارتر» بأن صنع من فريقه أبطالًا، بل غيَّر من حولهم جوًّا بأكمله، ناقلًا إياهم من ظلام الإهمال إلى نور المعرفة والإصرار.
ولأني مهتم بالجودة وتدريب المهارات الحياتية، قرأت خبر مناشدة «وزارة النقل للسادة قائدي المركبات بعدم استخدام الحارة المخصصة لمسار الأتوبيس الترددي» بعين خبير الجودة وبعين الناقد السينمائي الذي رأي فيلم «المدرب كارتر» ليس فقط مدرب كرة سلة، بل «قائد إداري» حقيقي يقوم بتحويل مؤسسة «الفريق والمدرسة» من حالة الفشل والفوضى إلى حالة التميز والانضباط.. يمكن تحليل أدائه عبر عدة محاور إدارية:
1. القيادة التحويلية «Transformational Leadership»
كارتر هو النموذج الأمثل للقائد التحويلي، الذي لا يهتم فقط بإنجاز المهمة «الفوز بالمباريات»، بل يغير حياة أفراد فريقه من الداخل.
• الحفز الإلهامي «Inspirational Motivation»: كان يمتلك رؤية واضحة ومثيرة يشاركها مع الفريق: «أن تصبحوا فائزين ليس فقط في الملعب، بل في الحياة».. كان خطابه الشهير «أنا المدرب، وأنتم اللاعبون. أنا هنا لأساعدكم، لكن عليكم أن تقرروا ما تريدون أن تكونوه» مصدر إلهام قوي.
• الحفز الفكري «Intellectual Stimulation»: دفع اللاعبين للتفكير خارج الصندوق الرياضي، ومواجهة الحقائق القاسية حول مستقبلهم إذا استمروا في نفس المسار.. أجبرهم على طرح الأسئلة الصعبة على أنفسهم.
• الاعتبار الفردي «Individualized Consideration»: تعامل مع كل لاعب حسب شخصيته واحتياجاته.. تعامل مع الطالب كروز بصرامة بسبب تمرده، ودعم الطالب تيمو بطريقة مختلفة بسبب تحدياته العائلية.
2. وضع الرؤية والاستراتيجية الواضحة «Vision & Strategy»
لم تكن استراتيجية كارتر مجرد «الفوز بالمباريات».. كانت رؤيته الاستراتيجية الشاملة هي: «صناعة رجال ذوي قيم وعقول، قادرين على النجاح خارج الملعب.»
• أهداف ذكية «SMART Goals»: وضع أهدافًا محددة وواضحة: عدم تلقي أي هزيمة، الحفاظ على معدل دراسي محدد، والالتزام الصارم بالقواعد.. كانت هذه الأهداف قابلة للقياس والتحقيق.
• الخطة التنفيذية: ترجم رؤيته إلى خطة عمل ملموسة: عقود السلوك، التدريبات الصارمة، حظر اللعب في حالة تدني المعدلات.
3. إدارة التغيير «Change Management»
واجه كارتر مقاومة شرسة من الفريق، الآباء، والإدارة المدرسية. أدار عملية التغيير ببراعة:
• خلق حالة من الإلحاح «Creating a Sense of Urgency»: واجه اللاعبين بإحصائياتهم الأكاديمية الكارثية واحتمالية عدم تخرجهم، مما جعلهم يدركون الحاجة الماسة للتغيير.
• بناء فريق التوجيه «Forming a Powerful Coalition»: كسب دعم المدير المساعد ونائب المدير في البداية، وببطء، كسب دعم اللاعبين الأساسيين مثل «كينيون» الذين أصبحوا سفراء للتغيير داخل الفريق.
• ترسيخ التغيير «Anchoring New Approaches»: جعل الانضباط والتفوق الأكاديمي جزءًا من ثقافة الفريق الجديدة، حتى بعد عودتهم للعب.
4. تفويض السلطة وبناء الفريق «Delegation & Team Building»:
• بناء الثقة والمسؤولية: من خلال العقود، جعل اللاعبين يوقعون على التزامهم بالمعايير، مما عزز شعورهم بالمسؤولية الشخصية والجماعية.
• خلق التكافل «Interdependence»: استخدم استراتيجية “الخطة الأساسية” في اللعب، التي جعلت نجاح الفريق يعتمد على أداء الجميع كوحدة واحدة، وليس على موهبة فرد واحد.
5. إدارة الصراع «Conflict Management»:
واجه كارتر صراعات مباشرة «مع كروز، مع الآباء، مع مجلس المدرسة».
• موقف ثابت وغير قابل للتفاوض: في القضايا الأساسية المتعلقة بالقيم والانضباط «مثل إقفال الصالة الرياضية»، لم يتراجع.. أظهر أن القيادة أحيانًا تتطلب اتخاذ قرارات صعبة وغير شعبية من أجل المصلحة طويلة المدى للفريق.
• الفوز بالمعارك الصحيحة: كان يعرف متى يكون صارمًا «مع الانضباط» ومتى يكون داعمًا.
6. القيادة الخادمة «Servant Leadership»
على الرغم من صرامته، كان دافع كارتر الأساسي هو خدمة لاعبيه.. كان اهتمامه الحقيقي بمستقبلهم ونجاحهم في الحياة هو المحرك لكل قراراته، حتى تلك التي بدت قاسية. كان استثماره فيهم يتجاوز بكثير كرة السلة.
ما يعنيني هنا هو ربط الاستراتيجيات القيادية التي تجسدها قصة المدرب كارتر في فيلم «Carter Coach» بحملة وزارة النقل لتعزيز استدامة منظومة النقل الجديد.. إن ما تقوم به الوزارة ليس مجرد مناشدة، بل هو تطبيق عملي لاستراتيجيات قيادية متقدمة لإدارة التغيير المجتمعي، واسمحوا لي توضيحه في النقاط التالية:
1. القيادة التحويلية: وزارة النقل لا تطلب فقط الالتزام بالقانون، بل تريد تغيير ثقافة القيادة لدى المجتمع. تشرح للجميع فوائد الالتزام وكيف يساهم في تحسين حركة المرور وسلامة الجميع.
2. الرؤية والاستراتيجية: تمتلك الوزارة رؤية واضحة لتحسين النقل العام، ووضعت هدفًا محددًا وهو منع استخدام الحارة المخصصة للحافلات لضمان تحقيق هذه الرؤية.
3. إدارة التغيير: تغيير عادات القيادة صعب.. لذلك توضح الوزارة عواقب عدم الالتزام مثل «التأخير والحوادث» وتعمل على جعل احترام هذه الحارة عادة دائمة لدى السائقين.
4. بناء الفريق: تعتبر الوزارة جميع السائقين فريقًا واحدًا.. مناشدتهم هي طريقة لتذكيرهم بأن نجاح المنظومة يعتمد على مسؤولية كل فرد والتزامه.
5. إدارة الصراع: ستواجه الوزارة من يخالفون للوصول بسرعة.. هنا يجب أن تثبت بحزم على تطبيق النظام من أجل المصلحة العامة والسلامة للجميع.
6. القيادة الخادمة: كل هذا الجهد من الوزارة هدفه الأساسي هو خدمة المجتمع وضمان سلامة جميع مستخدمي الطريق وتوفير نقل عام أفضل للجميع.
يا سادة.. ما تقوم به وزارة النقل هو أكثر من مجرد بيان إخباري؛ إنه ممارسة للقيادة التحويلية الخادمة. إنها تحاول قيادة تحول في السلوك المجتمعي من خلال رؤية ملهمة، وإدارة ذكية للتغيير، وبناء شعور بالمسؤولية الجماعية، كل ذلك في إطار خدمة المصلحة العامة وضمان استدامة منظومة النقل للجيل الحالي والمستقبلي.. النجاح سيتحقق عندما يتحول هذا الالتزام من كونه خوفًا من العقوبة إلى كونه فخرًا بالمساهمة في بناء مدينة أفضل.. فهل من مجيب؟!



