إبراهيم طه يكتب: صناعة السيارات.. حصاد التوطين يقترب؟!

كأنما تيار الصناعة المصري – بعد سنوات من المسير الهادئ – التقط أنفاسه العميقة، وبدأ يجري كالنهر العظيم عند اكتمال الفيضان.. تسع شركات كبرى تُشرع اليوم في نحت مسار جديد على خريطة التجميع المحلي خلال العامين الجاري والمقبل، كسفنٍ تُعدّ شراعها للإبحار في محيط إنتاج طموح اسمه «165 ألف سيارة سنوياً».
هذه ليست أرقاماً جامدة، بل بذورٌ تُغرس في تربة الاقتصاد الوطني، لتنمو شجرةً تُضاعف ثمارها إلى 260 ألف وحدة – فتُزيح ظل المستورد، وتُظلّل بأغصانها حلم التوطين الذي طال انتظاره.
وكما كانت تستقبل الأرضُ المصرية فيضان النيل بالبَذْر والحرث، تستقبل اليوم استثماراتٍ ضخمةً وحلولاً استراتيجيةً، لتُخرِج لنا من رحم التحديات.. سيارةً مصريةً تُلامس أسواق العالم.
هذه الطفرة ستُضاعف إجمالي السيارات المُجمّعة محلياً إلى 260 ألف وحدة – متجاوزة مستهدف الحكومة بنسبة 160% – في خطوة جادة نحو تحقيق حلم توطين الصناعة وتجاوز حاجز 400 ألف سيارة بحلول 2030.
استثمارات ضخمة ورهان على التصنيع المحلي
اعلم أن هناك خطة طموحة لخمس شركات كبرى («جي بي أوتو»، «نيسان»، «جاك» GAC، «المنصور»، «القصراوي») لضخ 630 مليون دولار في مصانع تجميع جديدة.. هذه التحركات ليست مجرد مشاريع اقتصادية، بل استراتيجية وطنية لمواجهة تحديات حادة اسمحوا لي كشفها في ايجاز وهي:
اختناقات سلاسل الإمداد العالمية، ونقص العملة الصعبة «وفر 4 مليارات دولار متوقع من التصدير بحلول 2030»، وتقليل فاتورة الاستيراد التي تثقل الاحتياطي النقدي
لماذا التوطين الآن؟
بسلاسة النهر الذي يَسبق الشلال لم تأتِ هذه الخطوة الجريئة من فراغ، بل هي لحظة التقاء نادرة بين ضرورة الواقع وجدوى الفرصة.. فبعد أن ظلّ شبح التبعية للاستيراد يلاحق الاقتصاد كظلّ طويل، ها هي مصر تُحيل التحديات إلى سُلّم تصعد عليه.. السؤال الذي يُطرق الأبواب الآن: لماذا اختارت مصر هذا التوقيت بالذات لخوض معركة التوطين؟
الإجابة: لأن اللحظة الناضجة كالثمرة في غصنها، فالتحرر من استنزاف مليارات الدولارات للمستوردات أشبه بـإيقاف نزيف دماء الاقتصاد.
وتحويل التصنيع إلى رافعةٍ تخلق الوظائف وتُنمّي الناتج المحلي، هو زرعٌ لشجرة الظلّ للأجيال واقصد الاستدامة.
أما الموقع الجيوسياسي – بجسوره التجارية إلى أفريقيا وأوروبا – فهو بوصلة تُحوّل الجغرافيا إلى رصيدٍ ذهبي.
والسباق نحو الكهرباء؟ إنه ركوب قطار المستقبل قبل أن يُغادر المحطة.. بصندوق الدعم وإحياء «النصر» كوقودٍ لهذا المسار.
أدوات الحكومة: من التشريعات إلى البنية التحتية
بسلاسة البناء المتكامل لم تترك الإدارة السياسية الحلمَ يطير في الفراغ، بل شيّدت له سقفاً من التشريعات وأرضيةً من البنى التحتية.. فكما تُرسي السفينةُ أشرعتها قبل الإبحار، وضعت مصرُ أدواتها في مكانها الصحيح وضعت يديها في العجين بوعيٍ صارم ، كي لا يبقى الطموحُ خطوطاً على الورق.. وتجسد ذلك في:
«الاستراتيجية الوطنية» التي كانت البوصلةَ التوجيهية «يونيو 2022».
و«البرنامج الصناعي» تحول إلى محركٍ يوميٍّ يدفع العجلة «نوفمبر 2023».
أما «المجلس الأعلى للسيارات» فأصبح العقلَ المدبّر الذي ينسق اللحامات «أكتوبر 2022».
بينما حمى «الصندوق البيئي» براعمَ السيارات النظيفة من العواصف.. ولم تنسَ أن تُعِدَّ 3000 محطة شحنٍ كأوعيةٍ تستقبل غيث المستقبل، فالمصنع بلا بنية تحتية كشجرةٍ بلا جذور.
وبسلاسة النور الذي يكشف تفاصيل النجاح ولا يُخفي ظلالَ التحديات بل يضعها في دائرة البصر لنتأملها بصدق، فوراء كل إمكانية واعدة – كالموقع الاستراتيجي والاتفاقيات المضيئة وسواعد الشباب – تقف عقباتٌ كالجبال الشامخة، تنتظر إرادة التسلق.. وتبقى المعركة الحقيقية في تضاريس الواقع وتتجسد في:
رفع المكون المحلي من 45 ٪ إلى 60 ٪ أشبه بزرع نخلة في صحراء يتطلب صبر السقاية.
وبناء منظومة الصناعات المغذية هو نسج خيوط الشبكة قبل صيد الفرائس الكبرى.
وضمان تنافسية العربات المصرية دولياً يعني خوض سباقٍ بمركباتٍ لا تزال تُسوّي أنفاسها.
وجذب الاستثمارات في زحام السوق العالمية كـنداءٍ في ميدان مكتظ.. يقتضي صوتاً مميزاً يعلو فوق الضجيج.
الضوء يكشف المسرح
وما كادت مصر تُلقي بذرتها الصناعية، حتى أقبلت القوافل من كل حدبٍ وصوب. فالساحة التي أُعدت بالأمس بالاستراتيجيات والتشريعات، تفتح ذراعيها اليوم للعالمين، ها هو العملاق الألماني «فولكس فاجن» يمد يده أولاً، معلناً عبر المديرة التنفيذية للمجموعة في أفريقيا، «مارتينا بيينه»: «مصر جنة الإنتاج.. ومشروعنا قاب قوسين»، متمماً مذكرة تفاهم مع صندوق مصر السيادي مثل بذرة غرسها في تربة بورسعيد.. ولا يتأخر الركب ونرى ونسمع أخبار مفرحة:
«هيونداي» الكوري كـسفينةٍ ترفع مرساتها نحو أرض الكنانة.
و«نيسان» الياباني يعيد حساباته في سوقٍ رأى فيها بُشرى المستقبل.
و«بروتون» الماليزية كـطائرٍ قادم من الشرق يحمل في منقاره خبراتٍ جديدة.
أما إحياء «النصر للسيارات» فهو الابن البارُّ الذي عاد ليكمل مسيرة أجداده.
صورة الحلم
بسلاسة الفجر الذي يلوح في الأفق ها هي مصر تُمسك بطرفي الخيط: في يدها طموحٌ يعلو كالنخلة «260 ألف سيارة بحلول 2026»، وفي الأخرى واقعٌ لا يزال يُراوح مكانه «95 ألفاً اليوم». بين هذين القطبين، يُطرق سؤالٌ كنبض القلب: هل تُفلح اليدان معاً في نسج هذا الحلم إلى ملموسٍ يُرى؟
الجواب يختفي في ثنايا معادلةٍ ثلاثية الأبعاد:
حوافز استثمارية مثل قطرات ندى تُحيي بذور الطموح.
وبنية تشريعية تُشبه سقالات البناء التي تحرس صعود الجدران.
وتحريرٌ من أغلال الروتين التاريخي.. كـقطع السلاسل عن قدم السائر.
ويظل التحدي الأكبر ضمن تفاصيل المعركة الحقيقية هو سباقٌ مع قطار الكهرباء العالمي الذي لا ينتظرُ من تأخر!
يا سادة.. هذه ليست أرقاماً ترفرف في الهواء.. إنها معركة إرادات تخوضها مصر بين: مطرقة الزمن الذي يدق جدران الثورة الصناعية الرابعة وسندان التراث البيروقراطي الثقيل.. والخيط الرفيع الذي يربط الحلم بالواقع اسمه إصرارٌ مصري يرفض أن يكون رقماً في سجل المستحيل.. فهل من مجيب؟!