م . عباس محمود يكتب : ذكريات العبور “أنانـــي”

فى أثناء عملى على الجبهة فى فترة حرب الاستنزاف كنت متوجهاً إلى موقع العمل المطل على الضفة الغربية من قناة السويس ،وكانت السيارة تقطع الطريق وقد بدأ نور الصباح ينشر ضوءه على الكون والهدوء يملأ الفراغ ونتوقف كل فترة عند نقطة تفتيش لمراجعة تصاريح المرور والتأكد من هوية الركاب.
الزمن أحد أيام شهر فبراير 1969 في طريق السويس حيث كنا نعمل في إنشاء مخابئ للدبابات على خط القنال كنت أنظر حولي ولا أجد إلا اللون الأصفر في الأرض وفي ملابس الجنود المنتشرين على جانبي الطريق في وحداتهم حتى معداتهم كان يكسوها نفس اللون السكون والصمت يحيط بالصورة الصخب الداخلي وتدافق الأفكار وإختلاط الحلم بالواقع والخيال بالحقيقة والكل يبدأ وينتهي في العام لا يوجد حلم خاص ولا خيال يتصل بشخوص واقعنا وأحلامنا هي كيف نتجاوز بالوطن تلك المحنة ماذا يمكن أن نقدم ما الذي نستطيعه وهكذا تدور الأفكار حتى وصلت إلى الموقع على الضفة الغربية بالقرب من البحيرات المرة حيث كانت تتمركز قوات مدرعة وبعض وحدات المدفعية ومجموعة صاعقة وغادرت السيارة مسرعاً ملقياً بتحية الصباح على من يقابلني من جنود أو ضباط فقد كنت أعرفهم جميعاً وشد انتباهي شخص جالس على الأرض متكور على نفسه ونظرت فإذا هو “وجدى” أحد الأفراد المتميزين في مجموعة الصاعقة وشعرت بالقلق والتوجس خاصة حينما ألقيت عليه تحية الصباح وأجابني بغمغمة وهو مطرق الرأس وأقتربت منه وانحنيت سائلاً هل حدث شيئ لأحد الزملاء وهز رأسه بالنفي فتسائلت ثانياً إذاً ماذا جرى لتكون على هذه الحالة فنظر إلى بعيون مملوءة بالدموع الضابط “سعيد” مضطهدني وصرخت في داخلي الرحمة يا رب أنا أعرف الضابط “سعيد” جيداً وهو من أكثر من قابلت خلقاً وشهامة ورجولة ووطنية كيف يضطهد شخصاً مثل “وجدى” وحاولت أن أعرف القصة من “وجدى” ولم أتوصل إلى شيئ سوى زيادة كمية الدموع في عينيه والصمت التام وتركته بعد أن تمتمت بكلمات حاولت فيها أن أخفف عنه وطبعاً كنت كالأبله لأني استخدمت كلمات مثل إنشاء الله كل شيئ هيبقى تمام وبلاش الزعل ده والأمور راح تتصلح وطبعاً أنا مش عارف بأتكلم على إيه .!
وبدأت جولتي لتفقد سير العمل إلى أن وصلت إلى مكان الضابط “سعيد” وألقيت عليه تحية الصباح وأجابني كعادته والبسمة بإتساع الشفاه والفرحة تشع من عينيه وبريق الحياة والشباب والفتوة يغمر وجهه ودعاني كعادته إلى كوب الشاى وبدون تردد وافقته وجلست أمامه في إنتظار الشاى وبعد حديث قصير عن العمل والأحوال وبعض الموضوعات المعتادة وجدت أن الفرصة سانحة لسؤاله عن “وجدى” وسألته إنت مزعل “وجدى” ليه ده ولد جدع وإبن حلال وكمان بيحبك ونظر إلى وقد ارتسمت على شفتيه شبه إبتسامة وامتلأت ملامحه بمشاعر مختلفة وبدأ يتحدث قائلاً: سيبك منه هو فعلاً جدع وشهم لكن أناني جداً مش شايف غير نفسه ومش مهم زمايله أو أي شخص آخر ونظرت إليه قائلاً: أنا مش فاهم حاجة خالص وسرح “سعيد” قليلاً ثم قال لي أنت بقيت واحد منا وأنا راضي بحكمك إحنا كان عندنا الإسبوع إللى فات ثلاث عمليات عبور – وحتى نوضح للقارئ أن العبور تعنى إرسال قوات خاصة من المصريين تعبر القناة إلى الجبهة الشرقية وتحاول الوصول إلى خلف خطوط العدو لجمع معلومات وإذا قابلهم أحد أفراد العدو الإسرائيلى يتصرفون حسب الموقف إما أن يعودوا به آسيراً أو القضاء عليه وفى تلك الحالة يقطعون أحد أذنيه بعد مقتله ليعودوا بها كدليل على عدد الأفراد الذين تم القضاء عليهم – و”وجدى” اشترك في الثلاث عمليات رغم إن القاعدة إن مفيش حد يطلع في كل مرة وبالأمس كانت هناك عملية عبور وتم إختيار مجموعة العبور ولم يكن “وجدى” ضمن المجموعة وذلك لإعطاء الفرصة لزملائه ومن ناحية أخرى لإعطائه قدر من الراحة وطبعاً هو أعتبر ده إضطهاد وموقف ضده رغم أنه أحياناً كنا نفقد فرد أو أكثر فى هذه العمليات أو نصاب نتيجة الاشتباكات فى هذه العملية التى تحفها الكثير من المخاطر وكان رجالنا على قدر كبير من الإحترافية بذمتك مش دي تبقى أنانية، ولم أجد ما أقوله خاصة وقد امتلأت عيوني بالدموع.
الجندى المصرى يعتقد أن منعه من إجتياز المخاطرة هو إضطهاد والقائد الذى يحاول الحفاظ على جنوده فى حالة بدنية وذهنية سليمة ويجنبه المخاطر مؤقتاً يتم وصفه بالأنانى.
بارك الله فى مصر وجنود مصر الذين أطلق عليهم “خير أجناد الأرض”