م . عباس محمود يكتب :حكايات جدى ـ الحكاية الرابعة خلاص كبرت

حكايات جدى ـ الحكاية الرابعة خلاص كبرت
كان الشعور بالظلم… لا بل بالقهر يسيطر على مشاعري… كنت أشعر بأن هناك شيء ما قد أغتصب مني ولا أملك أي رد فعل كما تعودت منذ طفولتي ورغم أنني أصبحت الآن أعمل بعد أن أنهيت دراستي إلا أنني كنت ألجأ إلى جدي كلما واجهتني مشكلة ما!! وأنا الآن لا أواجه مشكلة… ولكنها لغز بالنسبة لي وكلما أزداد تفكيري أحسست بأن رأسي سوف تنفجر… كيف أرضي أمي وأبي… لم أدخر جهداً لكي أقدم لهما الدليل تلو الأخر على حبي لهما ومحاولاتي لإسعادهما وتلبية كافة رغباتهما لا يمر يوماً واحداً إلا وأنا معهم أقف ساعة أو أكثر أستمع لهم وألبي طلباتهم مهما كانت بسيطة… ناهيك عما أقدمه لهم في كل مناسبة.
ورغم هذا أجد أن اهتمامهم بأخي الأصغر الذي أنهى دراسته منذ عامين ويعمل في إحدى الشركات الكبرى ويحصل على راتب أكبر من راتبي… أجد اهتمامهم به أكبر بكثير… فإذا قدم الطعام… يحتجز أفضل الطعام له… حتى عندما فكرت أن اشترى لأبي قطعة من الصوف لعمل بذلة جديدة له فوجئت به يعطيها لأخي الأصغر بحجة أن لديه ما يكفي ويزيد… ولم يكتفي بذلك بل منحه أجرة التفصيل أيضاً… كان أخي الأصغر منذ طفولته ممن يطلق عليهم عيال شياطين… دائم
المشاغبات… لا يعطي الدراسة حقها… أنهى تعليمه الثانوي في خمس سنوات بدلاً من ثلاثة والجامعي في ست سنوات بدلاً من أربعة… تجده دائماً مفلساً… كريم وشهم مع أصدقائه إلى درجة كبيرة جداً… لا يعبأ بالمستقبل ويأخذ الحياة كلها لهو وتهريج وقلما ألتزم بموعد… تراه متعجلاً دائماً… ويتركك على وعد باللقاء بعد ساعات… ولكن يعلم الله وحده متى يكون هذا اللقاء… عندما يمرض أبي أو تتوعك أمي كنت أسرع لإحضار الطبيب وأشترى الأدوية وأظل بجانبهم أناولهم الدواء وألبي طلباتهم بينما هو يمارس حياته العادية قائلاً لي في سخرية “يا عم خلاص عملت اللي عليك… سيبهم بقى دي الحكاية بسيطة” ورغم ذلك أجد أمي في كل مناسبة تمنحه من مدخراتها قروض كانت تطلق عليها ديون معدومة لأنها تعلم أنها لن ترد أبداً… ورغم ذلك لا تتوقف عن ذلك… أما أبي فإنه لا يتوقف عن الدعم الغير مباشر سواء بأن يشتري له بعض الملابس قائلاً لي عندما أضبطه متلبساً بذلك “أصل الولد ده مهمل وأنا اشتريت له الحاجات دي وطبعاً لازم يدفع ثمنها”… وهكذا دائماً.
أما أنا فلم يحدث أبداً أن كنت موضع اهتمامهم… إذا كانت هناك مناسبة سعيدة لأحد الأقارب أو المعارف كان واجبي أن أذهب للتهنئة وتقديم الهدية المناسبة وإلا تعرضت للعتاب واللوم والتأنيب وكذلك في المناسبات الأخرى كالمرض أو الوفاة… كنت أنا المندوب المعتمد للأسرة الذي يجب أن يقوم بكل هذه الواجبات رغم تواجد أبي وأمي… إلا أن وجودي كان محتماً… أما أخي فإن حضر أو لم يحضر… فلا فرق ولا عتاب… كل هذه الأمور لم تكن تزعجني وإنما الإزعاج الحقيقي هو لماذا يعامل أخي بكل هذا الحنان والاهتمام وهو لا يقدم لهم أي شيء بينما أعامل أنا بطريقة مختلفة تماماً بحيث إذا ما قصرت ولو بدرجة بسيطة في أي شيء تنقلب الدنيا على رأسي ولا تنعدل إلا بمجهود شاق وبعد تقديم كافة الأعذار المقبولة منهم… كنت أسير وأنا أفكر وأتساءل لماذا يحظى أخي بكل هذه الرعاية والمساندة رغم طيشه ونزقه الواضح للجميع ولماذا أنفرد أنا وحدي بتحمل المسئولية والأعباء ولماذا لا أحظى بجزء من اهتمام أمي وأبي بشئوني… في حين ينصب كل اهتمامهم على أخي… على أي حال أنا في طريقي إلى جدي ليضع حلاً لهذه المهزلة… وصلت أخيراً عند جدي… كان يجلس في مكانه المعتاد وأمامه فنجان القهوة ونظر إلى مرحباً بي وبعيون تفيض بالحنان احتضنني بنظراته واحتواني بابتسامته المعهودة.
وبادرني وكأنما يقرأ في كتاب مفتوح خير شكلك عايز تكلمني… وامتلأت عيناي بالدموع… كانت دموع غيظ مما أشعر به من ظلم… وبدأت أحكي وأشرح… وكعادته دائماً لم يقاطعني ولو حتى للاستفسار عن شيء ما… وكنت أحكي واستشهد بوقائع كثيرة للتعبير عما حدث ويحدث وكل ما طال الحديث وامتد أشعر بأن عبئاً ثقيلاً يخف عن أكتافي… أخذت أتحدث لما يقرب من الساعتين… وبدأت ألحظ شبح ابتسامة على شفتيه… وحين توقفت عن الكلام وجدته ينظر إلى بنظرة تمتلئ بكل المعاني الجميلة كانت تذكرني تماماً بنظرة الأم إلى وليدها الجديد وهي تهم بإرضاعه ولم تكن لهفتي إلى سماع رأيه تقل عن لهفة ذلك الرضيع إلى صدر أمه… وسألني جدي… يعني أنت مش عارف ليه ده بيحصل؟؟
وأردف وقد اتسعت ابتسامته… شوف بقي يا أستاذ… أنت بالنسبة لنا كلنا خلاص كبرت وإحنا مش قلقانين عليك بالعكس كلنا واثقين فيك وفي تصرفاتك وبنتعامل معاك إنك ناضج وعاقل وقادر على تحمل المسئولية أما بالنسبة لأخوك فهو ما زال محتاج رعاية ولازم كلنا نبقى خايفين عليه لإنه لسه تفكيره غير مسئول والحكاية مش بالسن… فاهم يا أستاذ… ياللا بينا نقوم علشان تتغذى معايا…!!
وإلى لقاء قريب مع باقى حكايات جدى….