م . عباس محمود يكتب :حكايات جدى ـ الحكاية الثانية التجربة الأولى فى العمل الحر

حكايات جدى ـ الحكاية الثانية التجربة الأولى فى العمل الحر
كما هي عادتي دائماً… كلما واجهت موقفاً صعباً أو مشكلة ما أن ألجأ إلى بيت جدي حيث نشأت هناك… ومنذ أن أخطو داخل البيت وأذهب إلى غرفتي لأبدأ عزلتي التي قد تمتد من بضع دقائق إلى أكثر من يوم طبقاً لحالتي… واليوم كنت أشعر بأنني في مسيس الحاجة لتلك العزلة أكثر من أي وقت مضى… كانت لدى رغبة شديدة في العزلة والبكاء بل الصراخ إن استطعت.
ما هذا أنا لا أكتب لكم مسلسلاً بوليسياً أو قصة مثيرة… لتكن البداية واضحة… كنت في أواخر العشرينات عندما بدأت عملي الحر الخاص واستطعت بقليل من الجهد أن أحصل على صفقة جيدة تبشر بربح معقول وبداية مشجعة… وتم توقيع العقد… وبدأت في العمل ولم يمضي سوى شهر واحد وإذا الأمور كلها قد انقلبت رأساً على عقب… فقد بدأ ما أطلق عليه سياسة الانفتاح وتوالت القوانين والقرارات وكأنما كانت تصدر خصيصاً من أجلي وبدأت تأخذ منحنى مخالف لما تمت الدراسة على أساسه وارتفعت أسعار معظم الخامات التي كنت أعتمد عليها.
وبدأت أتحرك في كافة الاتجاهات محاولاً إنقاذ ما يمكن أو على الأقل تقليل نسبة الخسائر… ولكن هيهات فالقانون هو القانون… والعقد واجب التنفيذ وإلا… ولنتوقف قليلاً عند هذه الـ وإلا… سأتعرض لشطب أسمي من كافة الأعمال الحكومية وشبه الحكومية ناهيك عن توقيع غرامات التأخير ثم التنفيذ بأي سعر على نفقتي الخاصة ولديهم القدرة على ذلك بكل الوسائل… ناهيك عن فقدان السمعة في بداية الطريق… لم يكن أمامي خيارات… ونفذت العقد في الموعد المحدد وبالطريقة المطلوبة ولا أبالغ إذا قلت أنني أضفت من جانبي بعض التفاصيل التي كلفتني مبلغاً لا بأس به.
ولكن ما المانع إذا أصبحـت الخسارة إحدى عشر بدلاً من عشرة… وجاءت لحظة الحساب ولم تكفي مدخراتي في هذا الوقت لتغطية الإلتزامات… وكان أمامي أحد أمرين لا ثالث لهم… أن ألجأ لطلب العون من جدي!!! أو أن أبيع سيارتي وأسدد باقي التزاماتي… وكان الحل الثاني هو الأقرب إلى نفسي… ولم أتردد وخلال ساعتين انتهى الأمر ولم يكن يعنيني كم تساوي بقدر ما كنت أنظر هل الثمن يكفي لسداد التزاماتي لذا لم يستغرق الأمر وقتاً فقد بيعت بثمن يغري أي مشتري لاقتناص الفرصة.
وعندما بدأت في سداد التزاماتي وجدت الكثير من العمال البسطاء يصرون إصراراً شديداً على التنازل عن جزء من مستحقاتهم ويرددون كأنما بينهم اتفاق “يبقى موت وخراب ديار”… ولولا حاجتهم الشديدة كما قالوا لما أخذوا أي شيء… وكانت لتلك المواقف أثرها الكبير في تخفيف آلامي النفسية… وإحساسي بالمساندة الحقيقة بلا افتعال أو مزايدة أو انتظار لعائد ما!!! وبعد أن انتهيت من سداد كافة التزاماتي… لم يتبقى معي سوى بضعة جنيهات قليلة… وغمرني إحساس بالضياع والفشل والانهيار وسارعت ألوذ بملجأي الآمن… كنت مثل السلحفـاة التي تجمع جسدهـا داخل صدفتها عند الشعور بالخطر… وعندما وصلت إلى بيت جدي الذي لم يكن قد عاد من عمله بعد استقبلتني جدتي بوجه يطفح بالقلق… خير !! ما لك!! حصل إيه؟!! ولم أزد على أنني مرهق ومحتاج لقليل من الراحة… ودموعي تفضحني… وتنظر إلى دون أدنى تعليق تحترم رغبتي في عدم الكلام وتحترم حاجتي للانفراد بنفسي.
وجلست استرجع ما حدث وأحاول جاهداً أن أجد أي ثغرة فيها خطأ في تقديري حتى أستريح ولكن دون جدوى… وغفوت من كثرة التفكير وسمعت بالخارج صوت جدي يقول دعيه الآن وسوف أرى ما يمكن عمله بعد أن أعرف السبب… لا تحاولي اقتحام خلوته الآن… ومضت حوالي الساعة أو أكثر… وإذا الباب يدق خفيفاً… ولما أجبت أنفرج الباب قليلاً وظهر وجه جدي قائلاً “إذا كان ممكن أقعد معاك شوية… قوم أغسل وشك وحصلني على الصالون”… وحاولت جاهداً أن أبدو متماسكاً وأن أخفي آثار الدموع… وأخذت أتلكأ قدر المستطاع ولم يكن بد من المواجهة… وحين جلست أمامه قام من مكانه وجلس بجواري متجهاً بكل جسمه نحوي… وسألني هل تبكي؟؟ ولما حاولت النفي تبسم كعادته في جميع الأحوال وقال لي ولماذا لا تبكي… يا أبني لا يبكي سوى الرجال… والدموع مثل الأمطار تغسل الإنسان من الداخل ثم بعد ذلك يشرق الأمل من داخل الإنسان كما تشرق الشمس بعد المطر… على أية حال لقد علمت بأنك بعت سيارتك لتسديد التزامات كانت مطلوبة منك… وهذا سبب حزنك… وباغتني متسائلاً هل تعتقد إنك قد خسرت… وأردف قائلاً دون أن يعطيني أية فرصة لعمل أي شيء… لا يوجد إنسان على وجه الأرض يقول أنه خسر ويكون صادقاً… ثم أكمل بهدوء شديد سأقص عليك قصة لتعرف ما أقصده وبدأ جدي يحكي
في يوم ولادتك كنا خارج غرفة الولادة قلقين على أمك حتى ظهرت القابلة على الباب تحمل في يدها طفل صغير يبكي ولا يستره أي شيء وأعطتني إياه حتى تنال البشارة بقدوم المولود وكان هذا الطفل هو أنت… إذاً لقد أتيت إلى الدنيا لا تملك أي شيء ولا قطعة قماش تسترك… فإذا عدت اليوم كما جئت إلى الدنيا أي لا تملك ما يسترك فإنك أيضاً لا تكون خاسراً بل قد كسبت الأيام الماضية التي كنت تلبس وتأكل وتحيا مستمتعاً بكل شيء… باختصار مفيش خسارة… وربت على كتفي واحتواني بنظرته الحانية قائلاً ياللا نشوف بكره ممكن نعمل إيه؟!!
وفى الختام أتمنى أن يسمح العمر بإستكمال حكايات جدى