م . عباس محمود يكتب : حكايات جدى

حكايات جدى
بداية أعتذر عن الكتابة بالشأن العام أو فى تاريخ الأحداث التى مرت حتى تنقشع الغمامة التى تظلم المنطقة بالكامل ويزول العدو الفاشى الذى لم يجد من يوقفه وأعدكم فى الأسابيع القادمة بحكايات جدى والتى أزعم أن بها الكثير من الحكم أو المواقف ليتعلم منها الأباء بكافة مستوياتهم الفكرية والمادية كيف ننشيء جيلاً صالحاً بقدر المستطاع.
وإليكم الحكاية الأولى مع رجائى بأن تدعوا له بالرحمة والمغفرة.
أسرعت الخطى كما لو كنت أخشى أن أتراجع عن قراري … وأخذت أسير بآلية فأنا أعرف موضع كل قدم وكم من السنين وأنا أقطع نفس الطريق … الحوانيت على الجانبين أعرفها وأعرف أصحابها منذ كنت طفلاً صغيراً … أنا ذاهب إلى جدي ليجيبني على سؤال ظل حائراً في داخلي أكثر من عشرين عاماً … وأنا لا أعرف تفسيراً لما يحدث معي … فأنا الوحيد الذي نشأ وتربى في البيت الكبير حتى أكملت مراحل تعليمي وتخرجت وعملت وأصبح لي استقلالاً مادياً إلى حد ما … والسؤال لا ينقطع في داخلي … لم يحدث ولو مرة واحدة على سبيل المصادفة أو حتى الخطأ أن أعطاني جدي أو جدتي أو أحد أعمامي أو عماتي أو حتى أبي أي نقود … فمنذ طفولتي المبكرة كان دوري أن أبلغ جدتي بطلباتي … وفي الصباح قبل ذهابي
للمدرسة وهي ترافقني إلى باب الدار تهمس في أذني “أوعى المصروف يقع من جيبك” أو تشير إلى حقيبة المدرسة “خلى بالك فلوس الرحلة في الشنطة” وحتى بعدما أصبحت طالباً جامعياً … كانت تهمس في أذني كل صباح “مصاريف الرحلة في درج المكتب” أو “ثمن الكتب اللي طلبتها تحت المخدة” وبنفس اللهجة الحانية الرقيقة تضيف “عايز حاجة ثانية” لم يناقشني أحد ولو مرة واحدة في طلباتي … ولم يختصر منها أي طلب من أي نوع … ولم يؤجل مطلب واحد … وفي أيام الأعياد كانت العائلة بأكملها تتجمع صباح العيد ويقف أخوتي وأبناء عمومتي أمام جدي للمعايدة وتلقي العيدية ويبدأ أعمامي وعماتي في توزيع العيديات … وأنا جالس لا أتحرك … ولا يفكر أحد منهم في منحي ولو قرش واحد … وتنظر جدتي ناحيتي وتلمح نظراتي الحائرة ودموعي التي تكاد تطفر من عيناي … فتشير لي أن أتبعها إلى حجرتي وتغلق الباب ثم تبدأ في تلقيني … عيدية جدك في الدرج العلوي وعيدية عمك أحمد تحت الأباجورة وعيدية عمتك …… إلخ … وأبدأ في جمع العيديات وعادة تكون أكثر من ضعف ما حصل عليه الآخرون ولكني رغم ذلك لم أشعر بالفرحة ولا بالتميز … كانت حيرتي تطغى على تفكيري … حتى في عيد ميلادي كانت العائلة تجتمع وكذلك أصدقائي … وكلما وصل أحد منهم وضع هديته على المائدة وأرفق بها ورقة صغيرة عليها أسمه … ولم أكن أستطيع أن أفتح أي هدية أو مظروف به مبلغ من المال بدلاً من الهدية إلا بعد أن ينصرف المدعوين جميعاً … ولا داعي لأن أعيد وأزيد عن انكسار الفرح بداخلي … وتضخم السؤال … لماذا … وكلما اتسع إدراكي عاماً بعد عام كلما شعـرت بأن هنـاك شيء ما لا أعلمه يحدث معي … ولا أملك له تفسير … واليوم … اليوم فقط قررت أن أجد تفسيراً … وأسرعت الخطى وبداخلي الكثير من المشاعر مثل الذي يقف أمام مدخل مغارة لا يعلم ما الذي بداخلها … الرهبة الممتزجة بالشوق … والفرح المقرون بالقلق … وصلت إلى جدي كان يجلس فيِ مكانه المعتاد … وأمامه فنجان القهوة … ونظر إلى بعينين تفيضان بالحنان كان يحتضنني بنظراته … وكانت ابتسامته مرفأ الأمان الذي طالما كنت ألجأ إليه … لم يكن يتكلم كثيراً ولكن عيونه ووجهه البشوش كانا يقولان ما يعجز عنه اللسان ولا تعبر عنه أي لغة … وجلست أمامه استجمع شتات أفكاري … وأرتب مدخل إلى ما أريده بحيث يبدو طبيعياً … ونظر إلى جدي بعيونه الحانية … وقطع على الطريق متسائلاً خير ؟؟. فيه حاجة جاى تسأل عليها ؟؟. أنا سامعك … وبدأت أجمع أفكاري وأعيد ترتيبها … قلت له … أنا أعلم إنك لم تحرمني من أي شيء … طلباتي كانت تجاب بلا تردد أو تأجيل … لم أحرم يوماً من المساندة المادية أو المعنوية وحتى اليوم مازلت أشعر بمساندتكم لي في كل الأوقات حتى النصيحة والتي لم أتوقف عن طلبها كانت نعم السند لي في مواقف كثيرة … وانطلقت مسترسلاً كما لو كان لساني إنفك من عقالي ذاكراً كل ما تحتويه ذاكرتي … وكيف كنت أصر على أن أعمل خلال الإجازة الصيفية لا من أجل أي شيء سوى أن أكون بجواره أتعلم وأستمع وأرى كيف يعالج المواقف المختلفة وكيف يتعامل مع كل موقف بحكمة … كان هذا هو الغذاء الحقيقي والهدف من عملي بجواره في إجازتي الصيفية … لا أنكر أن هذه الفترات التي عملت فيها أكسبتني الكثير من خبرات التعامل مع البشر كما مهدت لي طريقي في الحياة العملية وأعطتني ميزة عن الآخرين … كنت أتكلـم وأنفعـل وأهدأ … وهو أمامي يحتضنني بعينيه … واسترسلت كل هذا وأكثر منه لا أستطيع أن أتذكره الآن لقد أخذت أكثر من أي إنسان وكنت المدلل ولكن بلا إفسـاد ورغم كل هذا هناك سـؤال لم أجـد له تفسير حتى الآن … لماذا لم يحدث ولو مرة واحدة أن أعطيتني أي نقود سواء كان مصروفي أو مصاريف الدراسة أو ثمن كتاب أو حتى عيدية العيد … كأنما كان محرماً على أن أتلقى أية نقود … كانت طلباتي كلها تجاب فقط عن طريق وضع النقود إما في أحد جيوبي أو في درج المكتب … أو في أي مكان يتم إعلامي به لاحقاً بصورة غير مباشرة … “أوعى المصروف يقع من جيبك” … “لا تنسى ثمن الكتاب في الدرج” … “اشتراك الرحلة في الشنطة” إلى أخر تلك الجمل … وكلما مرت السنين … ازدادت حيرتي حتى أصبح السؤال يقف أمامي طوال الأربعة وعشرون ساعة … نظر إلى جدي تلك النظرة الحانية وقد ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهه … لا لقد أحسست أن جسده بالكامل يبتسم وأخذ يهز رأسه في سعادة لا تخفى على أحد … ورأيت جدي يعتدل في جلسته وفرد ذراعه أمامي فاتحاً كف يده قائلاً لي وهو مازال يبتسم ويهز كفه فارداً إياها … علشان تعرف إن دي ما تمدهاش علشان الفلوس وتتعود إنها تيجي لك من غير ما تمد إيدك !!!