مقالات ودراسات

م / عباس محمود يكتب : الرحلة مجنونة علي الطرق المصرية في عام 1964

فى أثناء العام الدراسى 1963/1964 وكانت تلك السنة الأولى للدراسة الجامعية وتعرفت أثناءها على الصديق أحمد الفلال وكنا معاً فى فريق الجوالة واتفقنا على عمل رحلة مجنونة نجوب فيها مصر أو على الأصح منطقة البحر الأحمر وجنوب مصر وقررنا أن نبدأ رحلتنا بعد إنتهاء إمتحانات العام الدراسى بأسبوع على الأكثر.
وبدأنا الإعداد لهذه الرحلة بشراء خيمة صغيرة وجربندية “حقيبة تحمل على الظهر” واستخراج التصاريح اللازمة وأهمها الحصول على تصريح من حرس الحدود حيث أن المنطقة الواقعة جنوب السويس يلزم للمرور فيها تصريح من حرس الحدود فى ذلك الوقت، وكانت القواعد التى وضعناها بأنفسنا أن لا يزيد المبلغ المالى لكل واحد منا عن ثلاثة جنيهات حيث أن التنقل سيتم بأسلوب الأوتوستوب “طلب الانتقال فى ضيافة أى من السيارات المارة دون أى مبالغ”.

البداية محطة مصر :

وفى الموعد المحدد ذهبنا إلى محطة مصر وأخذنا القطار المتجه إلى السويس وكانت تلك المرة الوحيدة طوال الرحلة التى نسدد فيها قيمة الانتقال حيث أن رحلتنا الجوالة تبدأ من مدينة السويس ،وبعد وصولنا إلى السويس اتجهنا إلى طريق الزيتية جنوب السويس واستطعنا الركوب مع إحدى السيارات حتى نقطة مرور الزيتية وأخرج كل منا الدفتر الخاص به وتصريح الدخول الصادر من سلاح الحدود وتم ختم الدفتر والتوقيع عليه من رجال نقطة المرور وتسجيل التاريخ والساعة، ووقفنا بعد ذلك نحاول الحصول على سيارة تقبل أن تنقلنا إلى النقطة التالية وهى العين السخنة وعندما وافقت إحدى السيارات على نقلنا إلى العين السخنة وعند الوصول إلى نقطة المرور بالعين السخنة كررنا ختم الدفتر وتسجيل التاريخ والساعة، وكانت العين السخنة عبارة عن صحراء لا يوجد فيها أى نوع أو مظهر من مظاهر الحياة ولا يوجد سوى البحر والرمال، وتم تركيب الخيمة الصغيرة حيث بدأ الظلام يهبط وأشعلنا بعض النيران بالأعشاب والقطع الخشبية التى جمعناها من حول المكان حيث أن درجة الحرارة كانت تصل إلى السقيع رغم أننا فى فصل الصيف وتناولنا العشاء الذى تكون من المعلبات الجاهزة والخبز المقدد الذى كنا نحمل كمية منه تكفى لبضعة أيام فقط.

25 قرشا اجر اليوم ووجبة ساخنه

وفى اليوم التالى جمعنا متعلقاتنا وخرجنا إلى الطريق الذى لم يكن يتجاوز 6 أمتار فى العرض وحصلنا على توصيلة بإحدى سيارات النقل المتجهة إلى الجنوب وعند نقطة الزعفرانة غادرنا السيارة وتكرر إثبات تاريخ وساعة الوصول وكانت تلك النقطة ترتفع عن سطح البحر بما لا يقل عن 30متر وقضينا الليلة الثانية فى الزعفرانة، وفى صباح اليوم الثالث تكرر نفس السيناريو ووصلنا إلى رأس غارب وكانت مدينة صغيرة ولكنها تعج بالحياة بوجود إحدى شركات البترول هناك والتى تعمل على استخراج البترول، وذهبنا إلى أحد المسئولين بالشركة ليساعدنا فى أن نعمل لمدة يومين أو ثلاثة أيام إذا كان هناك عمل متوفر ورحب بنا الرجل بعد أن استمع إلى مشروع الرحلة التى نقوم بها وألحقنا بالعمل فى المعامل الخاصة بتحليل عينات البترول وكان عملنا هو تنظيف الأدوات المستخدمة وتجهيزها لإعادة الإستخدام وتقرر لنا أجر يومى قدره خمسة وعشرون قرش بالإضافة إلى الطعام وكان هذا الإتفاق يمثل مكسباً كبيراً لنا ويكفى أننا سنتناول طعام ساخن.
وبعد ثلاثة أيام من هذا الرخاء قمنا بالاستئذان لنواصل باقى الرحلة وكانت النقطة التالية هى مدينة الغردقة وتكرر تسجيل التاريخ وزمن الوصول وكانت الحكمة من ذلك هى أن تتأكد جمعية الجوالة بالقاهرة أننا لم نستخدم سيارة ونقوم بهذه الجولة فى وقت قصير.

قرية الغردقة :
وكانت الغردقة مكان به قليل من السكان وفندق كبير ينزل به السياح ومبنى المحافظة – حيث أنها كانت عاصمة محافظة البحر الأحمر- وبعض المبانى الخشبية للسياح، والمدينة لم تكن تزيد عن قرية صغيرة من قرى الوجه البحرى وأخذنا نبحث عن مكان أو فرصة عمل خلال إقامتنا بالغردقة حيث أنها كانت فرصة للنزول إلى المياه والاستمتاع بهذه المدينة الجميلة وعثرنا على الورشة الوحيدة لإصلاح السيارات وكان صاحبها رجل من أسوان أذكر أن اسمه كان “عم عابدين” وبعد أن استمع إلينا قال أنه لا مانع أن نعمل معه لمعاونته فى أعمال بسيطة وقرر لكل منا مبلغ خمسة وعشرون قرش يومياً وأن يسمح لنا بالمبيت أمام الورشة فى خيمتنا الصغيرة وقضينا خمسة أيام وكان غذاءنا الرئيسى من أسماك البحر الأحمر حيث كانت الأنواع الفاخرة تباع بما لا يزيد عن عشرة قروش للكيلو وكنا نقوم بشواء السمك بإشعال نار من الأخشاب.

ميناء سفاجا :
وبعد ذلك أنتقلنا إلى مدينة سفاجا التى كان بها ميناء تجارى كبير حيث قضينا ثلاثة أيام ثم اتجهنا إلى مدينة القصير ثم مرسى علم حيث كان قد مضى منذ مغادرتنا القاهرة شهر وبعد ذلك قررنا النزول إلى مدينة أدفو فى أقصى الصعيد عن طريق مرسى علم / أدفو وكانت من أجمل المناطق الصحراوية التى تحدها الجبال من الطرفين بألوان نادراً ما تجدها فى مكان آخر تلك الألوان التى تخبرنا عن نوعية المعادن التى توجد بالجبل والتى تتنوع بين اللون الأحمر والأزرق والأخضر والأسود واستغرقت الرحلة ما يقرب من سبع ساعات بالنهار بالإضافة إلى ثلاث ساعات فى المسير ليلاً حيث وصلنا إلى أدفو لنبدأ رحلة العودة متجهين إلى الشمال بجوار النيل. وعند وصولنا إلى أدفو قررنا المبيت بجوار المعبد حيث قام حراس المعبد بمحاولة منع إقامة الخيمة الصغيرة ولما أخبرناهم بأننا لن نقيم إلا ليلة واحدة لنشاهد المعبد فى الصباح وبعد حوار استغرق ما يقرب من النصف ساعة وافقوا وتركوا أحد أفراد الحراسة بجوارنا حيث قام بدعوتنا على الشاى ورغم إجهادنا الشديد أخذنا نتسامر حتى قرب الفجر واستغرقنا بعد ذلك فى النوم حتى الصباح. وبعد زيارة المعبد – وهو من أهم المعابد الموجودة فى منطقة الوجه القبلى – قمنا بجولة للتعرف على المدينة ومحاولة الاختلاط عن طريق شراء بعض الأطعمة والتحدث مع البائعين وكان الكثير منهم يبدون تحفظاً شديداً فى الحديث معنا كغرباء.

قرية سلوة قبلي :

وفى نهاية اليوم توجهنا إلى الطريق العام للبحث عن وسيلة تنقلنا بضعة كيلومترات نحو الشمال وكانت مدينة صغيرة تسمى “سلوة قبلى” وقضينا الليلة كالمعتاد حيث وضح لنا أن غالبية سكان المدينة من أصل نوبى والذين تم تهجيرهم فى مرحلة رفع منسوب خزان أسوان بخلاف التهجير الثانى الذى كان يتم أثناء بناء السد العالى.
والحديث عن أهل النوبة يستحق مقالاً أو أكثر فى مرحلة تالية.
وأكتفى بهذا القدر اليوم وفى لقاء الأسبوع القادم نستكمل الرحلة المجنونة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »