م . عباس محمود يكتب : أولاد الناس … أولاد الأصول

“أولاد الناس وأولاد الأصول” مصطلحان شاع استخدامهما فى وصف أشخاص أو عائلات ولا أعتقد أن أحداً فى هذا الزمن يدرك الفرق بين أولاد الناس وأولاد الأصول وإذا عدنا بالتاريخ من بداية ظهور طبقة المماليك بمختلف تصنيفاتهم نجد أن هؤلاء المماليك كانوا اساساً من الرقيق “العبيد أو الجوارى” الذين يباعون فى أسواق النخاسة وكان إقتناء العبيد للعمل لدى أصحاب المال أوالسلطة فى أعمال عديدة أهمها إنشاء طبقة حماية لصاحب النفوذ وذلك بعد تدريبهم على أعمال القتال والفروسية وكافة ما يلزم لخلق طبقة ما يطلق عليها بلغة العصر “المليشيات” لحماية أصحاب السلطة والنفوذ والأثرياء وقد برع الكثير من هؤلاء فيما أسند إليهم من مهام وأظهروا الكثير من القوة والذكاء وحسن القيادة مما جعلهم يتولون مناصب كبيرة وصلت إلى حد أن يتبوأ أحدهم قيادة دولة مثل مصر أو الشام، وكتب التاريخ نقلت لنا العديد من هذه الأمثلة. ولما كان هؤلاء العبيد لا يعرف أحد أصولهم أو من أين آتوا ولا أنتماءاتهم العرقية أو العقائدية أو الجنسية وكانوا يطلقون عليهم “دول ولاد ناس”
وكان هذا الوصف يقابله وصف آخر يطلقه الشعب وهو “أبناء الأصول” حيث أنه كان من المعتاد أن كل فرد فى المجتمع معروف أصوله حتى يصل فى بعض الأحيان إلى الجد العشرين ومعروف انتماءاته ومن أين أتى ومن هم أجداده، هذا التقسيم لا يعنى تفضيل فئة على فئة فهناك الكثير من أولاد الناس الذين لا نعرف جذورهم أو نشأتهم أثبتوا جدارتهم فى مختلف النواحى سواء فى قيادتهم للجيوش أو ادارتهم للدولة حينما تولوا منصب السلطنة فى فترات عديدة سواء فى مصر أو فى بلاد الشام وكانوا يثبتون بهذه التصرفات أنهم جديرون بما وصلوا إليه من مناصب ولو راجعنا كتب التاريخ لوجدنا العديد من الأسماء مثل “السلطان بيبرس” “السلطان قطز” الذى هزم المغول والتتار ولم يمكنهم من دخول الأراضى المصرية رغم فشل الدولة فى بغداد من وقف اجتياحهم لدولة الخلافة فى بغداد وفى أراضى الشام مما يدل على بصيرتهم وتمكنهم من كافة الجوانب العسكرية فى هذا الزمن مما يدعنا نصفهم بأركان الحرب طبقاً لوصف القادة العسكريين فى زمننا الحالى.
وإذا تركنا جانباً مهاراتهم العسكرية وإدارتهم لشئون الحكم المدنى وانتقلنا إلى براعتهم فى نواحى العمران حيث تركوا لنا فى مصر العديد من المبانى الشاهدة على هذه البراعة منها الكثير من المساجد والأسواق التجارية التى كان يطلق عليها اسم “الخان” وهو مكان كان يستخدم لإستقبال التجار القادمين بالبضائع من خارج القطر وتسهيل سبل الإقامة والمعيشة لهم فى رحلاتهم. والكثير من هذه المنشآت يقع معظمها فى منطقة حى الجمالية والدرب الأحمر والسيدة زينب والتى ما تزال فى حالة جيدة جداً رغم مرور قرون عديدة على إنشاءها منها ما يتعدى 700 سنة رغم تعرضها للكثير من الزلازل والتغيرات الجوية ولكنها لم تتأثر بكل هذه العوامل وصارت مصدر إلهام للمعماريين المعاصريين فى الكثير من أعمالهم.
وهناك الكثير ممن يشذ عن هذه القاعدة وأقرب مثال على ذلك هو “خاير بك” المملوك الجركسى والذى وصل فى عهد “السلطان قايتباى” إلى منصب كبير يعادل منصب وزير الحربية وعينه “السلطان قنصوه الغورى” نائباً له فى حلب، وقد أطلق عليه العامة لقب “خاين بك” لأنه بخيانته مهد الطريق لإستيلاء العثمانين على الحكم وكذلك نجد فى تاريخ حكم المماليك الكثير مما يؤكد أن تلك الظاهرة كانت تتكرر بإنقلاب الكثير منهم على الحاكم أو السلطان سعياً إلى المكاسب الشخصية بدون النظر إلى مصلحة الدولة.
وعلى الجانب الآخر نجد أن هناك ممن يطلق عليهم “أولاد الأصول” لم يكونوا على مستوى هذا الوصف فعلى مر العصور وجدنا نماذج فى مصر باعوا الوطن لمصلحة قوى الإحتلال الأجنبى أو للحصول على مكاسب شخصية تقضى على مصالح الكثيرين من أبناء الشعب ولا مجال للإفصاح عن أمثال هؤلاء حتى لا أكون مصدر إساءة لأبنائهم أو أحفادهم.
وفى الموروث الشعبى يوجد الكثير ممن يطلق عليهم صفات مختلفة مثل “أولاد الحلال” وتطلق على مجموعة أو كلمة “بنت أو أبن حلال” وتطلق على الأفراد وذلك عندما تتوافر فيهم صفات الشهامة ومساعدة الآخرين وتقديم العون بقدر المستطاع وعدم السعى فى إيذاء أو إيقاع الضرر بأى من المحيطين بهم أو المتعاملين معهم وعلى النقيض من ذلك تتبدل كلمة الحلال بالحرام مما يعنى أن المقصود بهذه الصفة هو الشخص أو الجماعة التى تسعى إلى إيقاع الشر أو الإيذاء بالمحيطين أو بالمجتمع ككل. وكل هذه الصفات تنطلق من احساس داخلى من الأفراد بكل من حولهم فيطلقون على الكثير ممن حولهم صفات الجودة مثل “أبناء ناس طيبين” أو “أبناء أصول” أو على العكس يطلقون عليهم “أبناء حرام” بمعنى أشقياء أو غير سويين وهذا التمييز بين الناس من النادر أن تجده فى شعوب أخرى بخلاف الشعب المصرى بمختلف فئاته الاجتماعية والإقتصادية فالجميع لديهم القدرة على إطلاق هذه الصفات فى كافة المستويات الإقتصادية والاجتماعية وأعتقد أن هذا يرجع إلى الجينات المتأصلة فى المصريين جميعاً.
الهدف من هذه الكلمات أن نصل إلى حقيقة يؤكدها الواقع والتاريخ أن من يطلق عليهم “أولاد الناس” ويكون مجهول الأصل تصدر عنه تصرفات تشى بإنتماءات وانحياز لمن تولوا تنشأتهم وتربيتهم وبالأرض التى قدمت لهم المآوى والآمان فى حين أن هناك ممن يطلق عليهم “أولاد الأصول” يمكن أن تكون أصولهم غير سوية فمثلاً هناك من ينتمون إلى قبائل أو جماعات كانت فى الأصل تعيش على القرصنة ومهاجمة القبائل المجاورة أوقطع الطريق هؤلاء ينتمون إلى أصول غير سوية.
وفى الختام أرجو أن أكون وضعت صورة بسيطة بقدر طاقتى لملمح من ملامح الشخصية المصرية.
وإلى لقاء عسى أن يكون قريباً