د.م. أحمد الزلاط يكتب : «كيف نجحت العاصمة الجديدة في ضمان أمنها المائي لعقود قادمة؟»

العاصمة الجديدة الجديدة تُعد اليوم واحدة من أكثر المدن العربية والأفريقية تقدمًا في إدارة الموارد المائية،ليس فقط من خلال تنفيذ مشروعات كبرى، بل عبر رؤية تخطيطية وضعت الأمن المائي في قلب البنية الأساسية للمدينة منذ اللحظة الأولى للتأسيس.
منظومة معالجة المياه… العمود الفقري لاستدامة العاصمة
الدولة المصرية تبنّت استراتيجية تعتمد على إنشاء محطات معالجة ثلاثية مطابقة للمعايير العالمية،لتصبح العاصمة الإدارية واحدة من المدن القليلة التي تعتمد على إعادة تدوير المياه بنسبة تتجاوز 80% من احتياجات الري والمساحات الخضراء والمحطة المعالجة الثلاثية في العاصمة تُعد من أضخم المحطات فيمصر والشرق الأوسط بطاقة تصميمية تصل إلى 250 ألف متر مكعب يوميًا كمرحلة أولى، ترتفع تدريجيًا مع التوسعات لتتجاوز 500 ألف متر مكعب يوميًا خلال السنوات المقبلة ، هذه القدرة الإنتاجية كافية لتغطية كامل احتياجات المدينة من مياه الري، بما يضمن عدم استنزاف المياه العذبة المخصصة للاستخدامات السكنية والخدمية.

إعادة استخدام المياه… مدينة تعيد تدوير مواردها
إن منظومة إعادة الاستخدام داخل العاصمة الجديدة ليست مجرد معالجة تقليدية، بل حلقة متكاملة تبدأ بجمع المياه الرمادية والسوداء، مرورًا بمعالجتها ثلاثيًا، وانتهاءً بضخها في شبكات ري ذكية تغذي أكثر من 15 ألف فدان من الحدائق والمساحات الخضراء،والمدن الرياضية،ومحاور التشجير الرئيسية، والحدائق المركزية التي تُعد الأكبر في الشرق الأوسط ، وهذه المنظومة خفّضت استهلاك المياه العذبة بنسبة 55% مقارنة بمدن مصرية مماثلة في الكثافة العمرانية.
تنويع مصادر الإمداد… مدينة لا تعتمد على مصدر واحد
من أبرز نقاط القوة في تخطيط العاصمة الجديدة هو عدم الاعتماد الكامل على نهر النيل، بل توزيع مصادر المياه لضمان أعلى مستوى من الأمان المائي ، وتتضمن هذه المنظومة الاتي :
*خطوط مياه رئيسية من محطة العاشر من رمضان بطاقة تصل إلى 650 ألف م³/يوم.
*خطوط إضافية احتياطية من محطات شرق القاهرة لتعزيز الإمداد في أوقات الذروة.
*خزانات استراتيجية بسعة تتجاوز 1.5 مليون متر مكعب لتوفير مخزون مائي يكفي لأيام كاملة في حالات الطوارئ.
هذا التنوع في المصادر يمنح العاصمة الجديدة مرونة تشغيلية تجعلها قادرة على مواجهة أي ظروف مستقبلية، سواء كانت زيادة في عدد السكان أو موجات جفاف محتملة.
شبكات نقل وتوزيع تُدار بالذكاء الاصطناعي
العاصمة الإدارية هي أول مدينة في مصر تُدار شبكات المياه بها عبر أنظمة SCADA التي تسمح بمراقبة الضغوط والتدفقات في الوقت الفعلي، والتدخل التلقائي لمنع أي فاقد أو تسرب ، وهذه الأنظمة خفّضت نسبة الفاقد في الشبكات إلى أقل من 7% فقط مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يتراوح بين 20–30% ، كما تم دمج أنظمة التحكم في الري بحيث تُحدّد الحساسات الإلكترونية الرطوبة واحتياجات النبات وتحدد كمية المياه المطلوبة بدقة، مما يحقق وفرًا إضافيًا يتجاوز 20% من إجمالي استهلاك مياه الري.

المدينة الخضراء… تحويل الصحراء إلى نظام بيئي مستدام
العاصمة لم تُخطط فقط لتأمين المياه، بل لتكون أكبر مدينة خضراء مخدومة مائيًا بطريقة مستدامة، حيث يتم الاعتماد على:
النباتات المحلية قليلة الاستهلاك للماء، واستخدام تقنيات الري بالتنقيط،وتقليل المساحات العشبية كثيفة الاستهلاك واستبدالها بالمساحات الشجرية.
هذه السياسات مكّنت المدينة من الحفاظ على أكثر من 40 مليون متر مكعب سنويًا من المياه كانت ستُهدر في أنظمة الري التقليدية.
العاصمة الإدارية… نموذج وطني وعالمي في إدارة الموارد المائية
بالتأكيد على أن العاصمة الجديدة ليست مجرد توسع عمراني أو مشروع إسكان، بل منظومة متكاملة تُعيد تعريف مفهوم بناء المدن في مصر، ولكن تمثل تحولًا استراتيجيًا في إدارة الموارد المائية… إنها مدينة وُضعت لتعيش، لا لتُرهق موارد الدولة. وما تحقق فيها اليوم هو دليل على قدرة مصر على بناء مستقبل مستدام يليق بالأجيال القادمة.
إن التجربة المصرية يمكن اعتبارها مرجعًا للدول التي تواجه تحديات مشابهة، خصوصًا تلك التي تبني مدنًا جديدة في بيئات صحراوية أو شبه جافة.



