إبراهيم طه.. يكتب: سعيٌ «خيرٌ» رحمة على القضبان

في أحد أيام ديسمبر الجاري، دارت مكالمة هاتفية كشفت عن لوحة إنسانية نادرة.. على الطرف الآخر، كانصوت الصديق والعزيز «خير راغب»، مدير تحرير صحيفة «المصري اليوم»، يحمل في طياته قصة تلمسالقلب وتُعيد تعريف معنى الخدمة العامة.. كان أخي «خير»، بحسه المرهف و وراثته لسماحة والده «المقدّس راغب»، يعمل بتفانٍ على إحياء مسارات العائلة المقدسة، وهذه المرة كان قلبه مع مجموعة من أبناء كنيسة الجيزة الذين ينوون زيارة دير العذراء مريم في «درنكة» بمحافظة أسيوط، وهي تراث روحي عزيز.
العائق الوحيد كان تنظيم رحلتهم: يحتاجون إلى «75» تذكرة قطار ذهاب وعودة، وهو طلب لوجستي ليس بالهين، خاصة في وقت ربما يعتبره البيروقراطي «طلباً استثنائياً» يكتنفه بعض التعقيد والروتين.. هنا، لميتردد «خير»، تحركت فيه قيم الإنسانية والخدمة، ليس كوسيط رسمي، بل كقلب يخفق برغبة إنجاح رحلةإيمان وسلام ، حيث عرض الموضوع علي المهندس محمد عامر رئيس هيئة السكك الحديدية المصرية ، الذيوجهه بحسه الوطني بتذليل كافة الإجراءات لسفر ال75 مصري لزيارة الدير التي تعد واحده من أهم نقاطالعائلة المقدسة .
رؤيةٌ تستلهم التاريخ لتصنع المستقبل
وقبل أن تبدأ حكاية التذاكر، لا بد من فهم ينبوع هذا العطاء.. فأخي الكاتب الصحفي خير راغب لم يأتِ دورهمحض صدفة أو كوساطة عابرة؛ بل هو تتويج لمسيرة طويلة من السعي الواعي والاهتمام الشغوف بمشروعيرى فيه نهضة لوطنه: إحياء مسار العائلة المقدسة في مصر.. إنه يمتلك، بحكم خبرته وكدّه البحثي، مفاتيحنجاح هذا المشروع العملاق؛ فهو لا يقرأ الخرائط التاريخية كحبر على ورق، بل يقرأها كدليل حي تنبض بينثناياه قصص وأسماء ومسارات ومداخيل اقتصادية.
هذه التفاصيل الدقيقة التي أتقنها – بدءًا من مواقع الاستراحة ووصولاً إلى الجو الثقافي والديني المصاحب– هي التي تفتح كل باب مغلق، وتذلل أي عقبة بيروقراطية أو لوجستية.
شهادتي أمام الله إن الهم الأكبر لأخي «خير راغب»، الذي يشكل وقود كل خطوة يخطوها، هو أن تستفيد مصر كلها من هذا الإرث الفريد.. فهو يرى بعين الوطني المحب كيف يمكن لهذا المسار أن يتحول من ذكرى فيكتب التاريخ إلى مقصد سياحي ديني عالمي، يجذب ملايين السياح من كل بقعة على الأرض، ليساهم فيدفع عجلة الاقتصاد الوطني، ويضع مصر في مكانتها اللائقة كملجأ روحي وقلب نابض للتاريخ الإنساني.. هذا الحلم الوطني الكبير هو الذي يجعل من أي طلب، كطلب تذاكر القطار، أمراً مقدساً في نظره؛ لأنه خطوةعملية في بناء ثقة وجسر نحو تحقيق تلك الرؤية الأكبر.
وما حدث بعدها، كان درساً بليغاً.. لم تتعامل إدارة السكك الحديدية مع الطلب كرقم أو كملف بيروقراطي آخر.. لقد رأت وراء الأرقام قلوبًا بشرية، وحاجة روحية، وفرصة لخدمة الوطن من خلال رعاية أبنائه.. استجابت المؤسسة بسلاسة وكفاءة، مؤمنة بأن رسالتها الحقيقية تتجاوز نقل الركاب إلى نقلالمشاعر وبناء الثقة.. تحولت التذاكر الـ«75» من مجرد مقاعد على قطار إلى جسور من الانتماء والتكافل.
هذا التجاوب الإنساني الفوري ليس محض صدفة، بل هو الثمرة الظاهرة لجذور متعمقة من المبادئ الاستراتيجية والإدارية الرشيدة التي تتبناها إدارة السكك الحديدية.. ويمكن تفسير هذا النجاح من خلالعدسة متكاملة تجمع بين استراتيجيات الجودة الشاملة والعلوم الإنسانية:
أولاً: الكفاءة التي تخدم القلب
إن ما حدث هو ترجمة عملية لاستراتيجية جودة لا ترى التناقض بين الإجراءات الدقيقة والمرونة الإنسانية،حيث:
• تلبية احتياجات «العميل» بصورة شمولية
تذهب استراتيجيات الجودة الناجحة إلى ما وراء المنتج المادي «تذكرة القطار» لتركز على العملية برمتهاوتجربة العميل الكاملة.. هنا، كان «العميل» هو مجموعة من المواطنين يبحثون عن الطمأنينة الروحية،فكانت الاستجابة على قدر هذه الحاجة الإنسانية، مما يعزز السمعة الحسنة ويرسخ الثقة.
• التحفيز الذاتي والاجتماعي: محرك الجودة الحقيقي:
تشير الدراسات إلى أن جودة البيروقراطية وفعاليتها تعتمدان بشكل كبير على دوافع العاملين الذاتيةوالاجتماعية الإيجابية، أي رغبتهم في العمل الجاد لصالح الآخرين.. تصرف فريق العمل في السككالحديدية ينم عن وجود هذه الثقافة المؤسسية، حيث تجاوزوا الواجب الرسمي إلى واجب إنساني.
• العقلانية المرنة في مواجهة البيروقراطية الجامدة:
يصف عالم الاجتماع «ماكس فيبر» البيروقراطية المثالية بأنها تعمل بالدقة والسرعة والوضوح تحتمظلة السلطة العقلانية القانونية.. ما حدث هنا هو تطبيق «رشيد» و«عقلاني» لهذه المبادئ، حيثاستُخدمت القواعد والإجراءات ليس كقيد، بل كإطار لتمكين فعل الخدمة السريع والمحترف، ممايجسد الجدارة في الأداء.
ثانياً: الإنسانية واحترام الآخر: أساس الجودة
هذه الواقعة هي مشهد عملي من دروس العلوم الإنسانية، التي تدرس الظاهرة الإنسانية في جميعتجلياتها وتسعى لتحقيق السمو الأخلاقي.
• بناء الإنسان مسؤولية جماعية:
تؤكد الرؤى المعاصرة أن بناء الإنسان المتكامل هو مسؤولية تضامنية تتداخل فيها كل مؤسسات الدولة. لقدفهمت إدارة السكك الحديدية دورها في هذه المعادلة، فساهمت في بناء لحظة من الكرامةوالانتماء للمواطنين، وهو أعلى درجات «بناء الإنسان».
• تجاوز النفعية المباشرة:
تذكرنا هذه القصة بأن قيمة الفعل لا تقاس دائماً بمكاسبه المادية المباشرة في «سوق العمل»، بل بقيمته فيتوحيد المجتمع وتحرير الفرد من عوائق الروتين، وتزويده بمعايير الحكم العقلاني على الأحداث.. خدمة«75» مواطناً في رحلتهم الروحية هي استثمار غير مادي في النسيج الاجتماعي للوطن.
• الخطاب الديني والتكافل المجتمعي:
يأتي دور أخي الكاتب الصحفي خير راغب، كجسر بين مؤسستين: الإعلامي الروحي والمؤسسة الخدمية.. هذا يعكس الحاجة الملحة التي يُنادى بها دوماً لربط الخطاب الثقافي والديني بالواقع العملي، والتعاون بين جميع الأطراف لتحقيق تنمية إنسانية حقيقية.
قطارات الوطن تسير على سكك القيم
قصة الـ«75» تذكرة هي أكثر من مجرد خدمة عملاء متميزة.. إنها بيان عملي يوقّعه أبناء مصر المخلصونمثل الكاتب الصحفي خير راغب، وإدارة السكك الحديدية المصرية برمتها، على أن الجودة الحقيقية هيالتي تضع القلب الإنساني في مركز قراراتها.
لذا، فإن الشكر الجزيل ليس مجرد لفظة مجاملة، بل هو اعتراف بقيمة هذا النموذج.. فالشكر لـ «خير»، الذيكان جسر الخير الحقيقي.. والشكر موصول لوزارة النقل وقيادة وعاملين السكك الحديدية، الذين فهموا أنأعلى درجات الجودة هي إشباع الحاجة الإنسانية، وأن احترام الآخر يبدأ عندما نراه في أسمى صوره: إنساناً يستحق الرعاية والاهتمام، بغض النظر عن خلفيته أو وجهته.. لقد أثبتوا أن قطارات مصر لا تسير فقط على قضبان من حديد، بل على سكك من مبادئ الكرامة والتضامن والإنسانية.
مقالات مرتبطه
إبراهيم طه.. يكتب: من الجرارات إلى الكوادر.. أسرار نهضة السكك الحديدية


