مقالات ودراسات

إبراهيم طه يكتب: بوابات مصر البحرية تقطف ثمار الرؤية الاستراتيجية

شهد قطاع النقل البحري المصري خلال عام 2024 أداءً لوجستياً وتشغيلياً غير مسبوق، حيث تخطت أرقام التداول في الموانئ كافة التوقعات، مؤكدةً أن الجهود الاستراتيجية التي بذلتها الدولة المصرية بدأت تؤتي ثمارها بشكل ملموس.

لم تكن هذه الإنجازات مجرد طفرة عابرة، بل هي تتويج لرؤية وطنية طموحة واستثمارات ضخمة بلغت نحو 129 مليار جنيه مصري مخصصة لتحديث وتطوير الموانئ البحرية.. يضع هذا الأداء القوي مصر على مسار ثابت نحو تحقيق هدفها الاستراتيجي في التحول إلى مركز عالمي رائد للتجارة واللوجستيات.

بيان_برحلات_السفن_2024
بيان_برحلات_السفن_2024

 بيان برحلات السفن بالموانئ المصرية خلال عام 2024

إن الأرقام القياسية التي حققتها الموانئ المصرية في 2024 وفقا لتقرير حركة الموانئ 2024 الذي اصدره قطاع النقل البحري واللوجستيات هي نتيجة مباشرة وحتمية للتحسينات الجذرية التي تم إجراؤها على البنية التحتية.. فعلى سبيل المثال، أدت إضافة أرصفة جديدة يبلغ إجمالي أطوالها 67 كيلومتراً وزيادة أعماق الموانئ إلى تمكينها من استقبال سفن أكبر حجماً، وتحميل وتفريغ كميات أكبر من الحاويات والبضائع، مما انعكس بشكل إيجابي ومباشر على إحصائيات التداول.

هذا الربط السببي بين الاستثمار والأداء هو ما يمنح الأرقام معناها الحقيقي، ويؤكد أن ما حدث في عام 2024 لم يكن وليد الصدفة، بل هو تجسيد لعملية تخطيط مدروسة ومستقبل واعد وفقا لهندسة التخصص المينائي، وإذا ذهبنا إلى تحليل الأداء اللوجستي لعام 2024 فالأرقام ومن قبلها الرؤية الاستراتيجية تتحدث عن نفسها كالتالي:

 حركة الحاويات: قفزة نوعية وريادة إقليمية

سجلت حركة تداول الحاويات بالموانئ المصرية إجمالي 8,940,598 حاوية مكافئة «TEU» خلال عام 2024، في إنجاز يعد الأبرز في تاريخ القطاع.

 الترانزيت: الكنز المخفي

يكشف التحليل التفصيلي لهذه الأرقام أن المحرك الرئيسي لهذا النمو كان قطاع «الترانزيت» ذلك الكنز المخفي، الذي استحوذ على 4,927,242 حاوية مكافئة، أي ما يعادل 55% من من إجمالي حركة الحاويات و20% من إجمالي حركة البضائع في عام 2024.. هذا الأمر يؤكد نجاح الاستراتيجية التي تهدف إلى تعظيم الاستفادة من الموقع الجغرافي الفريد لمصر كجسر بين الشرق والغرب.

 ويؤكد هذا الأداء على الميزة التنافسية الفريدة للموقع الجغرافي لمصر على طرق التجارة العالمية.. وتُظهر أرقام التداول أن بضائع الترانزيت بلغت 4,927,242 حاوية مكافئة و42,110 ألف طن من البضائع.

ويقف ميناء شرق بورسعيد في صدارة هذه الحركة، حيث عزز مكانته كمركز محوري إقليمي وعالمي لإعادة الشحن.. فقد تعامل الميناء وحده مع 3,295,708 حاوية ترانزيت، وهو ما يجعله ركيزة أساسية في استراتيجية الممرات اللوجستية للدولة.

وعند مقارنة هذه الأرقام بالسنوات السابقة، يتضح أن هذا النمو ليس طفرة عابرة، بل هو اتجاه تصاعدي مستدام. فبينما كان إجمالي تداول الحاويات 7.6 مليون حاوية في 2022 وارتفع إلى 8.4 مليون حاوية في 2023، فإن النمو بنحو 6.4% من 2023 إلى 2024 يثبت استمرارية الأداء الإيجابي والفعالية المتزايدة لاستراتيجية الدولة في استغلال المنطقة الاقتصادية لقناة السويس. هذا النمو المستدام يبرر النظرة التفاؤلية للمستقبل.

جدول «1»: تداول الحاويات «TEU» حسب الميناء لعام 2024

بيان_بحركة_تداول_الحاويات_2024
بيان_بحركة_تداول_الحاويات_2024

تداول البضائع: شريان الاقتصاد الحيوي

لم يقتصر الأداء القوي على الحاويات فقط، بل امتد ليشمل حركة تداول البضائع، التي وصلت إلى إجمالي 208,296 ألف طن خلال عام 2024.

كان توزيع هذه الأرقام كالتالي: 96,390 ألف طن من الواردات، 69,796 ألف طن من الصادرات، و42,110 ألف طن من بضائع الترانزيت.

تكشف الأرقام عن وجود تخصص وظيفي ذكي بين الموانئ. ففي حين يتصدر ميناء شرق بورسعيد حركة الحاويات، تتصدر موانئ أخرى مثل دمياط «43,251 ألف طن» والإسكندرية «39,334 ألف طن» قائمة تداول البضائع العامة.

يعكس هذا التنوع استراتيجية مدروسة لعدم الاعتماد على ميناء واحد، حيث يركز كل ميناء على دوره الحيوي في خدمة التجارة الخارجية المباشرة أو حركة الترانزيت.

هذا التوزيع يعزز المرونة اللوجستية للدولة ويقلل من المخاطر المرتبطة بالاعتماد على منطقة واحدة، مما يضمن استمرارية تدفق التجارة في مختلف الظروف.

جدول «2»: تداول البضائع «ألف طن» حسب الميناء لعام 2024

بيان_بحركة_تداول_البضائع_2024
بيان_بحركة_تداول_البضائع_2024

السفن والركاب: مؤشرات على حيوية القطاع

لم يقتصر النشاط البحري على البضائع والحاويات فحسب، بل شمل أيضاً حركة السفن والركاب. فقد استقبلت الموانئ المصرية إجمالي 16,221 رحلة سفينة خلال العام، مع تصدر موانئ الإسكندرية «3,648 رحلة» ودمياط «3,204 رحلة» قائمة الموانئ الأكثر نشاطاً.

أما بالنسبة لحركة الركاب، فقد بلغ إجمالي العدد 518,857 راكباً.. وتشير الأرقام المرتفعة لموانئ مثل نويبع «248,465 راكباً» وسفاجا «197,986 راكباً» إلى أن دور هذه الموانئ يتجاوز مجرد التجارة ليشمل دعماً حيوياً للسياحة والتنقل الإقليمي، مما يعزز الترابط الاقتصادي والاجتماعي مع دول الجوار في منطقة البحر الأحمر. هذا النشاط يؤكد مكانة مصر كمركز إقليمي للنقل البحري الشامل.

جدول «3»: بيان بحركة الركاب حسب الميناء لعام 2024

بيان_بحركة_الركاب_2024
بيان_بحركة_الركاب_2024

 الاستراتيجية الوطنية والبنية التحتية: من الرؤية إلى الإنجاز

إن الأداء المميز لعام 2024 هو انعكاس مباشر للاستراتيجية الوطنية الطموحة التي تهدف إلى تحويل الموانئ المصرية إلى مراكز عالمية للتجارة واللوجستيات. تشمل هذه الاستراتيجية استثمارات ضخمة بقيمة 129 مليار جنيه مصري لزيادة القدرة الاستيعابية للموانئ من 185 مليون طن إلى 400 مليون طن سنوياً، ومن 12 مليون حاوية مكافئة إلى 40 مليون حاوية.

هذه الاستثمارات ليست مجرد رفاهية، بل هي ضرورة حتمية لمواكبة النمو.. فأداء 2024، الذي سجل نحو 8.94 مليون حاوية، يمثل بالفعل حوالي 75% من القدرة الاستيعابية الحالية «12 مليون حاوية».. هذا يظهر أن الموانئ تعمل بكفاءة عالية، ولكن التوسع أصبح أمراً ضرورياً وحتمياً لاستيعاب النمو المتوقع في السنوات القادمة. هذه الرؤية الاستباقية تضمن أن تكون البنية التحتية جاهزة لدعم طموحات مصر المستقبلية.

 قصص نجاح في إطار رؤية واحدة

تتجسد هذه الاستراتيجية في مشاريع تطوير عملاقة في مختلف الموانئ:

  • ميناء أبو قير: يجري العمل على تطويره بإنشاء أرصفة بإجمالي أطوال 10.1 كيلومتر بدلاً من 1.4 كيلومتر سابقاً، وبأعماق تتراوح بين 17 و22 متراً، وهو ما يُعد «أقصى عمق لميناء بحري في العالم». هذا العمق غير المسبوق ليس مجرد رقم قياسي، بل هو تموضع استراتيجي يضع الميناء في فئة خاصة تمكنه من استقبال أكبر السفن في العالم، مما يعزز القدرة التنافسية لمصر.
  • ميناء العين السخنة: يجري تطويره ليصبح أكبر ميناء على البحر الأحمر، مع إنشاء أرصفة جديدة بطول 18 كيلومتراً.. الأهم من ذلك، يجري العمل على دمج الميناء في مبادرة «طريق الحرير» الصينية، مما يمنحه بُعداً استراتيجياً يتجاوز كونه مجرد ميناء تجاري، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من شبكات التجارة العالمية.
  • موانئ الإسكندرية ودمياط: لا يقتصر التطوير على الموانئ الجديدة، بل يشمل أيضاً تحديث الموانئ التقليدية.. من أبرز المشاريع في الإسكندرية محطة «تحيا مصر» التي تبلغ تكلفتها 7 مليارات جنيه مصري. كما يجري ربط ميناء الإسكندرية بالسكك الحديدية، وهو ما يعكس استراتيجية التحول من مجرد موانئ بحرية إلى مراكز لوجستية متكاملة تخدم عمق البلاد.

 اعتراف دولي بالجهود

تتجاوز إنجازات 2024 الأرقام المحلية لتلقى اعترافاً دولياً مباشراً.. فقد شهدت مصر قفزة نوعية في مؤشر اتصال شبكة الملاحة البحرية الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «الأونكتاد»، حيث احتلت المرتبة 23 عالمياً في الربع الثاني من عام 2024، مقارنةً بالمرتبة 24 في الربع الأول من العام نفسه.

هذا التحسن في التصنيف هو دليل قاطع على أن الاستراتيجية والجهود المبذولة في تحديث الموانئ المصرية قد أتت ثمارها بشكل ملموس ومعترف به دولياً، مما يؤكد زيادة ارتباط الموانئ المصرية بشبكة الشحن العالمية.

هذه التصنيفات تضع أداء الموانئ المصرية في سياق تنافسي قوي.. فقد احتل ميناء شرق بورسعيد المرتبة 16 عالمياً في مؤشر البنك الدولي لتداول الحاويات لعام 2023، بينما جاء ميناء العين السخنة في المرتبة 122 وميناء الإسكندرية في المرتبة 172.. هذه المقارنات العالمية تثبت أن الموانئ المصرية لا تنافس إقليمياً فقط، بل أصبحت لاعباً رئيسياً على الخارطة البحرية العالمية.

 مستقبل واعد وريادة لوجستية على الطريق

يمثل عام 2024 وفقا للتقرير نقطة تحول حاسمة في مسيرة القطاع البحري المصري.. فقد انتقلت الرؤية الاستراتيجية من مجرد خطط طموحة على الورق إلى واقع ملموس يحقق أرقاماً قياسية على جميع الأصعدة، من تداول الحاويات والبضائع إلى حركة السفن والركاب.. إن الأداء القوي، المدعوم بالاستثمارات غير المسبوقة والمشاريع العملاقة، قد حظي باعتراف دولي مباشر من خلال تقدم مصر في المؤشرات العالمية.

تسير مصر بخطوات ثابتة ومدروسة لتأمين مكانتها كمركز لوجستي عالمي، وأن ما تم إنجازه في عام 2024 هو مجرد بداية. فالمشاريع الجارية، من توسيع الأرصفة وزيادة الأعماق إلى رقمنة الإجراءات وربط الموانئ بالشبكات الداخلية، ستعزز من قدرات الموانئ وتضمن استمرار النمو في السنوات القادمة.

يا سادة.. المستقبل يحمل المزيد من الإنجازات التي ستجعل من مصر ركيزة أساسية في التجارة العالمية وشرياناً حيوياً للاقتصاد العالمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »