إبراهيم طه.. يكتب: أنفاق سيناء قرار استراتيجي يرسخ السيادة المصرية

لم تكن مجرد ثقوب في جوف الأرض، بل كانت قراراً استراتيجياً يحمل روح أمة، وعبقرية مكان، وإرادة قيادة. إنها أنفاق قناة السويس، ذلك المشروع العملاق الذي انتزع سيناء من براثن العزلة، وربطها برحم الوطن في أحشاء الأرض، ليصبح عبورها من شقاء الساعات إلى نعمة الدقائق.
من فكرة إلى واقع ملموس
في لحظة تاريخية، أدرك الفريق كامل الوزير، وزير النقل، أن حل معاناة سيناء لن يكون بعلاجات مؤقتة، بل بجراحة استراتيجية عميقة.. فقدم فكرة إنشاء خمسة أنفاق أسفل المجرى المائي الأكثر حيوية في العالم.. وكانت الموافقة الحاسمة من الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليس على الفكرة فقط، ولكن على منهج التنفيذ: الاعتماد الكامل على الكفاءة المصرية، وشراء أحدث الماكينات، ومنح الثقة الكاملة للشركات الوطنية.
وبدأت الملحمة في يوليو 2016، حيث وقف 2500 مهندس وفني وعامل مصري، أمام تحدٍ هندسي هائل: حفر أطول أنفاق في العالم يبلغ مجموع أطوالها 5820 متراً، لتمر على عمق يصل إلى 70 متراً تحت سطح الأرض والمجرى الملاحي للقناة. وفي زمن قياسي، لم يتجاوز ثلاث سنوات، اكتملت الأنفاق الستة: نفقان في بورسعيد، ونفقان في الإسماعيلية، ونفق موازٍ لنفق الشهيد أحمد حمدي.

العبور الآمن.. هندسة ذكية
لم تكن العبقرية في الحفر فقط، بل في التصميم الشامل. فبوابة دفع الرسوم، التي تبعد كيلومترين ونصف عن مدخل النفق، هي ضمانة ذكية ضد الاختناق المروري، خاصة في ذروة العطلات والأعياد. لقد حوّل المشروع رحلة كانت تمتد لساعات، مليئة بالانتظار وعدم اليقين، إلى رحلة مضمونة لا تتجاوز 15 دقيقة بعد إتمام كافة إجراءات الفحص الأمني بسلاسة.
سيناء والوطن الأم: شريان حياة من الفولاذ والإرادة
لطالما كانت معاناة العبور إلى سيناء هي العائق الأكبر أمام خطط التنمية والتعمير.. فاعتمادها لعقود على الكباري العسكرية المحدودة، وكوبري السلام، ومعديات هيئة قناة السويس، كان يشكل عنق زجاجة يخنق أي أمل في تحقيق طفرة حقيقية.. اليوم، لم تعد هذه الأنفاق مجرد طرق، بل هي شرايين حياة تضخ الاستثمارات والطمأنينة والأمل في شرايين سيناء. إنها مشروع البنية التحتية بامتياز، الذي يحقق معادلة الأمن والتنمية في آن واحد، ويرسخ السيادة المصرية على ترابها.
الماكينات المصرية: من حفر الأنفاق إلى تصدير الخبرات
النجاح الأكبر في هذه الملحمة لم يكن في افتتاح الأنفاق نفسها، بل في إثبات مقولة “اليد المصرية قادرة”. لقد نفذت هذا المشروع التكنولوجي المعقد للغاية أربع شركات مصرية وطنية، تحت إشراف مهندسين مصريين، وبالتعاون مع شركات استشارية عالمية. لم يكن حفر قناة السويس الجديدة مشروعاً سهلاً، لكن حفر الأنفاق كان تحدياً تقنياً أعقد، واجتازته الشركات المصرية ببراعة.
والأهم من ذلك، أن هذه الشركات لم تتوقف عند هذا الحد، بل تحولت من شركات محلية إلى كيانات تنافسية عالمية..فاليوم، نراها تشارك بقوة في إنشاء الخط الرابع لمترو الأنفاق، الذي يربط مدن 6 أكتوبر والجيزة والفسطاط ومدينة نصر والرحاب حتى العاصمة الإدارية الجديدة. ومع الاستعداد لتنفيذ الخط السادس للمترو، تزداد حصة هذه الشركات، مما يؤهلها لتقديم أعمال تكنولوجية متقدمة.
مصر تصدّر الخبرة: من سيناء إلى أفريقيا وأوروبا
النتيجة الحتمية لهذه الثقة والجودة هي التوسع الإقليمي والدولي. لقد بدأت الشركات المصرية بالفعل في تصدير خبراتها المكتسبة من هذا المشروع القومي العملاق إلى الدول العربية الشقيقة، وإلى عمق أفريقيا، بل ووصلت إلى دول أوروبية.. لقد أصبحت العلامة المصرية في مجال الإنشاءات والبنية التحتية مرادفاً للجودة والإتقان والقدرة على إنجاز المستحيل.
الأنفاق الستة: شريان حياة.. وحائط صد للأمن القومي

بالمناسبة، في ظلال الذكرى الثانية والخمسين لحرب أكتوبر المجيدة، تبرز أنفاق قناة السويس ليس فقط كمشروع تنموي عملاق، بل كرسالة استراتيجية تكرس معاني السيادة والانتصار. فكما كانت حرب أكتوبر استعادة للكرامة والأرض، تأتي هذه الأنفاق استكمالاً لتحرير سيناء وتحويلها من أرض للمواجهة إلى رافد للتنمية.
هذه الأنفاق الستة – الأطول في العالم – لم تعد مجرد ممرات أسفل مياه القناة، بل تحولت إلى شريان حياة حيوي يضخ التنمية في شرايين سيناء، بعد أن ظلت لعقود تعاني من العزلة والتهميش. لقد حولت الرحلة من ساعات من الانتظار والمعاناة إلى دقائق معدودة، مما فتح الباب أمام حركة تنموية غير مسبوقة، وجذب الاستثمارات، وتثبيت السكان، وتحقيق الاستقرار المجتمعي.
أما على صعيد الأمن القومي المصري، فإن هذه الأنفاق تمثل نقلة نوعية في تعزيز السيطرة والسيادة على التراب الوطني.. فهي تضمن تحركاً سريعاً وآمناً للقوات والمعديات نحو سيناء، وتعزز الوجود التنموي والبشري الذي يمثل حائط الصد الأول أمام أي تهديدات.. لقد تحولت من معبر مدني إلى عمق استراتيجي يعزز الأمن القومي الشامل.
إن الحديث عن هذه الأنفاق في ذكرى أكتوبر ليس صدفة، بل هو تأكيد على أن معركة البناء والتنمية هي امتداد لمعركة التحرير. فكما كان الجيش المصري يرفع راية النصر في 1973، ها هي مصر ترفع راية البناء والتعمير، لتثبت للعالم أن إرادة الشعب المصري قادرة على تحويل التحديات إلى فرص، وتحويل ساحات القتال إلى ورش للتنمية. إنها رسالة واضحة: مصر التي انتصرت في الحرب، قادرة على الانتصار في معركة البناء.
النفق.. بوابة مصر إلى المستقبل

يا سادة.. أنفاق قناة السويس ليست مجرد إنجاز هندسي نفتخر به اليوم، بل هي نموذج لفلسفة تنموية جديدة..فلسفة تؤمن بالعقل المصري، وتستثمر في اليد المصرية، وتتجه بثبات نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي ثم التصدير للعالم.. فنحن أمام قصة عظيمة تحول التحدي الجغرافي إلى فرصة استراتيجية، وتحول العزلة إلى اتصال، وتحول الفكرة إلى واقع يلمسه المواطن كل يوم.. وهي في جوهرها، عبور جديد لمصر كلها نحو آفاق أرحب من السيادة والبناء والقيادة.